بقلم: خالص جلبي
في عام 1957 وفي جو الحرب الباردة، شعرت أمريكا بأنها في خطر ويجب أن تحمي نفسها من أي هجوم نووي. وكانت توقعات «ليزلي جروفز»، المشرف العسكري على مشروع «مانهاتن» عام 1945 في «لوس ألاموس»، أن الروس لن يتوصلوا إلى إنتاج القنبلة الذرية قبل 25 سنة، لكن الروس توصلوا إلى ذلك في أربع سنوات، وهذا يروي حماقة الجنرالات. وأمام هذا الاحتمال، بدأت أمريكا سرا في تطوير مشروع لم يعلن إلا لاحقا، إذ بنت بالتعاون مع «كندا» معجزة تقنية هي مشروع نوراد (North American Aerospace Defens).
بدأت أمريكا المشروع في يونيو من عام 1961، واشتد العمل فيه مع أزمة كوبا، وانتهى في 20 أبريل من عام 1966م. وبدراسة جغرافية الأرض الأمريكية، قدمت شركة «راند» خطة لبناء القاعدة في جبل «شيانChayen »، في منطقة «كولورادو»، لأربعة اعتبارات: فهو أقرب إلى مركز أمريكا جغرافيا، وهو في منطقة جيولوجية رائعة من صخور الغرانيت القاسي، كما أن المنطقة خامدة بركانيا، وفي النهاية فهي قريبة من قاعدة عسكرية هامة في «فورت كارسن». بدؤوا أولا بتفجير الجبل من الداخل، كي يصلوا إلى حفرة ملائمة داخل الطود العظيم. ووفقا للتصميمات يفترض أن تضم مساحة مقدارها 208 آلاف قدم مربع في بطن الجبل على شكل «الكرتونة» التي تحمل البيض، في إطار متقاطع من ثلاثة أروقة، تمتد فيها الأنفاق على طول ميلين ونصف الميل، وفي داخلها كل التقنيات المطلوبة ووسائل الراحة مع وسائل للاتصال بالعالم. ومن أشرف على العمل اثنان من أبرع مهندسي أمريكا، هما «توم كيزلي»، المتخصص في الجسور والأنفاق، و«ستيف جرينفيلد»، المتخصص في البناء تحت الأرضي؛ وكلاهما كان يعمل في مشاريع سرية عسكرية.
في السنة الأولى تم استخراج أكثر من مليار رطل من حجر الغرانيت القاسي لتستبدل بـ7000 طن من الإسمنت المسلح، وحفر نفق بقطر 15 قدما ليصل إلى مركز الجبل بعمق 1500 قدم تحت سطح الصخور؛ إلا أنهم شعروا بأن الجبل بدأ يتشقق مع عمليات الحفر، ما دفعهم إلى أن يدخلوا 115 ألفا من المسامير الطويلة، بأطوال تتراوح بين 6 و30 قدما، وبسمك «إنش» للمسمار، وبعزم دوران 375 قدم ـ باوند، فيثبت المسمار الواحد ما وزنه عشرة آلاف باوند، وهكذا أصبح مركز الجبل مسمرا كالطود العظيم.
ثم اكتشفوا خطأً مميتا في منتصف مرحلة الحفر، كان يجب ألا يرتكبوه، فقد ظهرت نواة الجبل هشة لا تقوى على مواجهة إعصار نووي، إذ تخرج نواة الجبل مع الضربة النووية، كما يخرج معجون الأسنان من عبوته. ليس هذا فقط، بل عرفوا أن أضعف مكان هو فوق قبة المبنى تماما. وبدأ المهندسون يفكرون ليلا ونهارا في حل هذه المشكلة الخطيرة، حتى توصل أخيرا المهندس العبقري «توم كيزل» إلى الحل، فاقترح بناء مظلة حديدية بقطر 100 قدم داخل الجبل، مدعومة بعمود هائل مثل عمود الخيمة على هيئة برج فولاذي فائق القوة، بحيث تحمي مركز العمل على نحو مباشر في الصدمة النووية.
هكذا انصب العمل لمدة سنتين على بناء هذه القبة من الحديد المسلح، وكان التحدي يتجسد في كيفية إدخال مبنى بطول 40 قدما عبر نفق بقطر 15 قدما. فما كان منهم إلا أن قطعوه إلى أجزاء دفعوها عبر الممر، ثم أعادوا تركيبها ولحموها ببعض في الداخل؛ وكان تركيبها أصعب من بنائها، لكنهم نجحوا بالذكاء والتصميم والخوف من الخصم الروسي الذي يتربص بهم ريب المنون، وكما يقول «كيزل»: بنينا أسطولا من السفن منكسة على وجهها مصنوعة على نحو بديع، في مغارة تعوم على بحر من النوابض، وبذلك أصبح الجبل مثبتا بالمسامير ومن الداخل يلبس خوذة حديدية.
ثم درسوا العناصر التي يمكن أن تهدم الجبل يوم القيامة النووية، فكانت خمسة مخاطر: الانفجار، والحرارة، والصدمة الزلزالية، والأشعة الكهرطيسية القاتلة، والاهتزاز، وحلوا كل مشكلة على حدة؛ فأما النار العظمى التي ستصل إلى ملايين الدرجات فتمتص من خلال نفق جانبي يدفعها إلى الخارج.
أما الممرات فتغلق تلقائيا مع اندفاع الضغط الهوائي، فلا تمتص موجة الصدم، ويجري هذا في جزء من ألف من الثانية. وأما الأشعة فقد بني المركز مثل مجموعة سفن مقلوبة على وجهها، ومغلفة بصفائح معدنية بسمك 38 إنشا، ومتصلة ببعضها بلحام متواصل تملك القوة الواقية التي ترد الأشعة. وأما الاهتزاز فقد حملت القاعدة كلها على 1300 نابض معدني هائل قطر الواحد 3 إنشات، ووزنه ألف باوند، وارتفاعه 48 إنشا، ويصل مع ثقل البناء فوقه إلى 36 إنشا. ولم يصنع أي مصنع في أمريكا ما هو أكبر من هذا، بحيث يميل البناء فلا ينهار، كما لا تتأثر الوصلات الحيوية. وهي فكرة خلاقة تستخدم اليوم في الأغراض السلمية لوقاية الأبنية من الزلازل.
نافذة:
بدراسة جغرافية الأرض الأمريكية قدمت شركة «راند» خطة لبناء القاعدة في جبل «شيانChayen » في منطقة «كولورادو» لأربعة اعتبارات