مستنقع الطائفية (3- 3)
بقلم: خالص جلبي
في الوقت الذي أنشأ الفاطميون الأزهر، لا يوجد اليوم فاطمي واحد في الأزهر. في حين أن العراق بلد الشقاق والتناحر والعنف، فيه ألف ملة ونحلة ولغة. فمنهم من يوحد الإله، أو يزعم أنه انشطر إلى ثلاثة بدون أن ينشطر، أو من يقدس عليا ونسله، أو يعبد الشيطان ويسميه طاووسا بذنب وثيل. من كرد وعرب، وشيعة وسنة، وتركمان وآشوريين، وكلدان وسريان، ويزيديين وأرمن، وآراميين وزرادشتيين.
كل طائفة وملة ونحلة بمدرسة ومعبد وكنيسة وفرقة موسيقية وعلم يرفرف، كل حزب بما لديهم فرحون.
هي أرض شظايا الأديان والحضارات، خلال ستة آلاف سنة،على حد تعبير المؤرخ البريطاني توينبي، في شرانق مغلقة تتبادل الريبة والكراهية، كما أعرف ذلك من مدينتي القامشلي التي ولدت فيها، فهي على خاصرة العراق، ففيها ثمانية أديان و12 لغة و18 لهجة في 28 شرنقة.
والعراق منذ القديم لا يعرف كيف يحكم نفسه، ويعجز عن حكمه من يأتيه من الخارج؛ إلا الحجاج ومن سار على دربه.. وما أمر فرعون برشيد.
وحسب عالم الاجتماع العراقي «علي الوردي»، فإن العراق مصاب بثلاث مصائب، كل واحدة كافية أن تكون مرضا غير قابل للعلاج:
من ازدواج الشخصية، صراع البداوة والحضارة، وأخيرا التناشز الاجتماعي بين التراث والحداثة.
وحسب «البزاز»، فإن أعظم كارثة حلت بالعراق هي ترييف المدينة، مع الانقلابات الثورية على يد عساكر الأقليات وأميي الريف؛ فدمر المجتمع المدني تدميرا، وهو ما حصل في عاصمة الأمويين. وقد يكون كلام البزاز يمثل نصف الحقيقة؛ فالحقيقة عادة صادمة موجعة.
لقد حاولت أمريكا على ظهر الدبابات بالبارودة والعصا، أن تحدث تجربة تاريخية في خلق «ديمقراطية كاذبة» في بلاد الرافدين، فكانت النتيجة مذابح الهوغونوت والكاثوليك ـ عفوا السنة والشيعة والأكراد والتركمان ـ لجهلهم بطبيعة الأمم وقوانين التاريخ، وأن التغيير بالدبابة لا يأتي إلا بالذباب، وتتويج سلاطين من حجم ترانزنستور من نوعية المالكي بدون ملك.
ويبقى خيار «الديمقراطية» أفضل من «الألوهية السياسية الحقيقية». وفي الوقت الذي تهزم فيه أمريكا عند بابل وأوروك، ستتم مطاردتها في كل مكان، وستدمر إسرائيل ربما في نصف قرن تدميرا كما يتوقع «أوري أفنيري»، الصحفي الإسرائيلي، ونشره في مقال معبر بعنوان لبسنا قميص نيسوس، اشتقاقا من الأساطير اليونانية، حين أرادت امرأة هرقل أن يعشقها زوجها، فكلفت نيسوس برأس إنسان وجسم حصان أن يغمس قميصا في نبع الحب فيلبسه هرقل فيهيم بها عشقا! وما حصل أن نيسوس غمسه في نبع السم، فلبسه هرقل، فمات من فوره.
وحسب عالم الاجتماع الألماني «ماكس فيبر»، في كتابه «روح الرأسمالية والأخلاق البروتستانتية»، فإن أوروبا احتاجت أيضا أجيالا، حتى انبعث الفكر النقدي من رحم الفكر النقلي ـ كما رأينا في نماذج الفكر التنويري على يد «مندلسون» و«ليسنغ» وكانا متعاصرين، كما كان الحال بين ابن رشد وابن طفيل في الأندلس.
كلاهما نشأ من أب تقليدي متشدد؛ ولكنهما شقا الطريق إلى الحداثة، كان أبو الأول كاتبا للتوراة، وكان والد الثاني واعظا لوثريا، ومن رحم التقليد خرج فكر التنوير، كما يخرج الله الحي من الميت ذلكم الله فأنى تؤفكون.
ومن نور الحداثة ونارها تم تدمير الكنيسة والإقطاع، وولد الرأسمال والعمل والبرلمان والصحافة والتعددية والتأمينات الاجتماعية ونقل السلطة السلمي.
إن الطائفية شر مستطير على الطائفة قبل غيرها، من يلعب في النار لا يجعل النار لعبة، بتعبير النيهوم.
وهي خطر على كل مستقبل الطائفة، لأن يوم الفصل كان ميقاتا، فيحكم بقطع رأسها على مقصلة التاريخ. ولنا في قصة مذابح التوتسي والهوتو ويوغسلافيا عبرة لمن يعتبر.
واليوم ودع العالم حكم العائلة والقبيلة والطائفة والدولة الإقليمية، فهذه روح العصر.
ونحن ليس أمامنا إلا سنن من قبلنا، ولا يمكن حرق المراحل، ولكن كشف قانون الشيء يمنحنا السيطرة عليه وتسريع عمليات الشفاء، كما نفعل مع المريض.
وكما يقول مالك بن نبي إن التعامل مع القانون لا يعني إلغاءه، بل التعامل معه بما يمنحنا السيطرة عليه، كما أمكن للحديد أن يطير عل شكل طائرات؛ فهنا لم يتم إلغاء القانون، بل تم التعامل معه حسب وجوده الأزلي بتداخل القوانين مع بعضها البعض وتسخيرها لبعض.
وأوروبا اليوم ودعت مرحلة الدولة القومية، باتجاه الدولة العالمية، في أعظم تجمع عرفه التاريخ، بدون سيف جنكيز خان، ولا مدافع نابليون، أو مدرعات هتلر، وأشرقت شمس اليورو تحت كلمة التوحيد؛ فلا يتخذ البشر بعضهم بعضا أربابا من دون الله.
إن كل ما نكتبه لا قيمة له، والشعوب تتعلم بالمعاناة.
وحتى يعود الوعي من المنفى ليس أمامنا إلا البكاء وصرير الأسنان والحروب الطائفية، والمذابح المذهبية، وموت الإنسان بتفاهة ورخص وبدون قضية.
والشعوب لا تصل إلى شاطئ الوعي، إلا على جسر من المعاناة فوق نهر من الدموع.
إن ما حدث من زلزال في العالم العربي بعد طول ركود، يجعلنا نؤمن أن التاريخ تقدمي وليس عبثيا، وأن الزبد يذهب جفاء، وما ينفع الناس يمكث في الأرض.. كذلك يضرب الله الأمثال.
وأن الأمم سوف تتعافى من سل الطائفية وجذام الحزبية وإيدز العائلية وسرطان العسكرية، ولو بعد حين.
نافذة:
أوروبا اليوم ودعت مرحلة الدولة القومية باتجاه الدولة العالمية في أعظم تجمع عرفه التاريخ بدون سيف جنكيز خان ولا مدافع نابليون أو مدرعات هتلر