خالد فتحي
لا أحد منا لا يعنيه ما يجري بالتعليم، فهو قطاع يصوغ مستقبل الأمة بأسرها، ولذلك سيظل دائما أخطر شأنا من أن يترك لوصفات السياسيين وحدهم، أو لضغط النقابيين وحدهم، ولا لرجال ونساء التعليم يستأثرون فيه برص المطالب وترتيب الأولويات.
هذا الاهتمام الجماعي هو فرض عين علينا، وخصوصا لما يصير القطاع مريضا أو كالمريض كما لمسنا في العقود الأخيرة.
أزمة التعليم وتوتره المزمن حولاه إلى عبء يجرنا للخلف عوض أن يكون من أسباب رقينا ونهضتنا، فنحن اليوم أمة لا تدري ما تصنع بتعليمها ولا كيف تبنيه، أمة تعجز عن وضع ثروتها من الأساتذة على سكة البذل والعطاء، بتوالي الإصلاحات الفاشلة التي لم تحط بالإصلاح من شتى جوانبه، وبسبب الحكامة المفترى عليها التي تحولت لغاية حلت محل الرؤية الحضارية والمستقبلية والإنسانية للقطاع، مما جعله نهبا لمخططات شكلية جوفاء لا تنفذ للجوهر تفشل كلما انتقلت لطور التطبيق.
الآن وصلنا لعنق الزجاجة بالإضرابات والاحتجاجات التي ولدتها هذه السطحية والارتجالية في التخطيط، وهذه الليبرالية المتوحشة في مقاربة قطاع اجتماعي يرهن مصير الأمة، مما يلزمنا بوقفة تاريخية للمراجعة وإعادة توجيه بوصلة فلسفة الإصلاح بشكل جذري.
من الواضح أن هناك إحباطا وتذمرا شديدين في الأوساط التعليمية، وأن القطاع الذي يشيع الأمل في الغد صار مصدرا لليأس. إذ هناك خوف كبير لدى المواطنين بأن الدولة لم تعد تبذل لهم الحماية الواجبة من أجل أن يحيوا حياة كريمة فبالأحرى الإبداع والتميز. وإشفاق لدى الأولياء بأن فلذات أكبادهم زج بها في معركة لكسر العظام بين الفرقاء.
فكيف تدهورنا لهذا الحد؟ وكيف غفلنا عن هذا القطاع الحيوي؟
لست أفشي سرا إن قلت إن داء العطب قديم: فهو في تهميش أهل الاختصاص، وفي غياب المشروع التعليمي الناجع. وتبديد رأسمال الثقة بين الأساتذة والمسؤولين، وفي غياب التحفيز حتى صارت وزارة التعليم الوزارة الوحيدة المدينة لموظفيها، وفي عدم تصفية رواسب النظام القديم مما راكم الملفات وعسر حلها، وهو بالتأكيد في التعالي على الأستاذ لكأن الحوار معه حرام، والجلوس والإنصات له هزيمة أو جريمة! وآفة الآفات في كل هذا بلورة برامج يقتات منها واضعوها للعودة مجددا الى إصلاح الإصلاح، وهكذا دواليك، وتدمير النقابات التي لم تعد تلعب دور الوسيط بسبب عدم الوفاء بالالتزامات، وعدم ضخ الدماء الجديدة فيها. إنه (العطب) باختصار شديد في الأجندات المعدة سلفا، والتي تفتى لنا من مؤسسات دولية لا أثر فيها للبصمة الوطنية تطبق في البرامج التعليمية وفي تدبير الموارد البشرية منذ زمن باستسلام وغباء بالقطاع.
إن هناك تراكما لأخطاء قديمة وأخرى جديدة سحبا يد الدولة من دعم التعليم العمومي والرهان عليه، حتى أننا لنقسم اليوم بالتعليم الأمة لفئتين متمايزتين اليوم متصارعتين غدا: فئة تتلقى تعليما راقيا في المدارس والجامعات الخاصة سيتيح لها أرقى الرتب الاجتماعية، وفئة تدرس بمؤسسات عمومية متردية الخدمات، هذا الانشطار ستكون له انفجاراته حتما على المدى المتوسط والبعيد. وهذا الاحتقان ليس إلا إرهاصا بأننا على حدود هذا المأزق الحرج. فما العمل ياترى؟
أعتقد أنه ينبغي أن نفكر انطلاقا من حلمنا في أن نصنع من مغربنا دولة عظمى. ولا طريق لذلك سوى الاستثمار في الإنسان الذي يمثل ثروتنا الحقيقية ببنائه معرفيا وتكنولوجيا وقيميا وثقافيا، وهذا بدوره لن يتأتى إلا من بوابة التعليم التي أثبتت التجارب العالمية أنها المدخل الوحيد لكل تنمية مستدامة.
وبهذا الاستنتاج، يكون لا مناص من أن ننطلق من مسلمة أساسية، وهي أن الأساتذة هم مفتاح النجاح لأية سياسة تعليمية مزمعة، وأي إصلاح نرومه لابد له من أن يعتمد عليهم أولا، فهم أداته ووسيلته وسنامه، وهو ما يعني ضرورة إعدادهم وتعبئتهم بتحسين أحوالهم الاجتماعية والمادية والمعنوية والمهنية عبر رفع الأجور وسياسة مدروسة للتكوين المستمر، والاعتراف فوق هذا بجهودهم وتحفيزهم أكثر من غيرهم، وكذا رفع منسوب الثقة لديهم من خلال حفظ صورتهم وقدرهم ومكانتهم داخل المجتمع، فالمنطق يفترض أنه لا يرقى مستوى أي تعليم في أية أمة فوق مستوى مدرسيها.
علينا أن نعي جيدا بأن مستقبلنا هو بيد أساتذتنا، وأن إنكار ذلك هدر للزمن ليس إلا.. ولذلك لابد من ضمان كرامتهم وتمكينهم من مناخ الإبداع في عملهم، وعدم إغراقهم في مهام ليست من صلب مهنتهم، كما أنه لابد من الحرص على أن نواكب ونحصن تشريعيا وقانونيا ونظاميا كل ما نحققه لصالحهم دون نكوص أو تراجع، حتى نطمئنهم ونحبب مهنة التعليم للنشء الصاعد، ونضمن استدامة تكوين المواطن الصالح لنفسه ولأمته. بمثل هذه المقاربات يكسب المستقبل.