مسؤولون ومبدعون يهود تخرجوا من خيريات المملكة
عانى اليهود المغاربة من جور الزمن، وعاشوا في مختلف الحقب الزمنية أنواعا من المحن، فقد كان تصنيفهم متدنيا في سلم الوجاهة الاجتماعية، ولم يكونوا أفضل حالا من المغاربة المسلمين في مغرب كان يعيش تحت الحراسة النظرية للاستعمار الفرنسي.
خاض اليهود المغاربة حرب البقاء وناضلوا من أجل كسرة خبز مبللة بالمحن. أغلبهم كانوا يقتاتون من تجارة بسيطة وحرف تقليدية ومهن بسيطة تكفي بالكاد للبقاء على قيد الحياة.
راهنت المنظمات الإسرائيلية على التربية والتعليم كحل للانعتاق من قيود الفقر والجهل، وشرعت منذ بداية القرن الماضي في بناء المدارس وإنشاء «خيريات» أشبه بداخليات لإيواء التلاميذ الذين وقف الفقر عائقا في وجه دراستهم، قبل أن تعمم التجربة لتشمل القرى والمداشر بعد أن كانت حكرا على ملاحات المدن الكبرى.
تنافست الجمعية الخيرية اليهودية مع نظيرتها الجمعية الخيرية الإسلامية والجمعية الخيرية المسيحية في إنشاء هذه المرافق، دون أن تنسج في ما بينها علاقات تعاون وإخاء، فلكل «خيرية» سكتها ومحطاتها وجرسها الذي تقرعه كلما انتابتها نوبة خصاص، فتهرع القلوب الرحيمة لتقديم الدعم والسند.
لكن مع تقلص «منسوب» الوجود اليهودي في المجتمع المغربي، والرحلات الجماعية إلى «أرض الميعاد» هجر الأطفال الفقراء مؤسسات الرعاية، وأعلنوا القطيعة مع الخصاص، قبل أن يتبين لهم زيف ادعاءات المنظمات التي لطالما وعدتهم باستبدال العوز بالعيش الرغيد. إلا أن الظروف الاقتصادية الصعبة التي واجهها اليهود المغاربة في إسرائيل والتمييز الذي عانوا منه، جعلت الندم يداهم اليهود المغاربة ويجعلهم أكثر حرصا على الرجوع إلى نقطة الانطلاق.
في هذا الملف تنفض «الأخبار» الغبار عن ذاكرة المؤسسات الخيرية اليهودية في المغرب، والشخصيات التي اقتاتت منها قبل أن تستبدل الفقر بالجاه، دور هذه المرافق في التخفيف من الأعطاب الاجتماعية التي ضربت فئة واسعة من اليهود وحولت الأحياء اليهودية إلى نموذج للهشاشة في زمن لم يكن فيه ذكر لمسكن المبادرة الوطنية للتنمية البشرية.
الرابطة الإسرائيلية.. ميلاد في باريس ونشاط في المغرب
في ربيع سنة 1860 اتفق ثلاثة شبان يهود على خلق الرابطة الإسرائيلية الكونية، وكان الهدف من إنشاء هذه المنظمة هو مأسسة العمل الخيري بين اليهود على المستوى الدولي، تبين مع مرور الوقت أن المؤسسين ينحدرون من حركة «أضواء اليهود» التي ظهرت في النصف الثاني من القرن التاسع عشر في أوربا، وراهنت على لم شمل اليهود والتخفيف عنهم من أعباء الحياة ومساعدتهم على مواجهة عوادي الزمن.
تشبع المؤسسون بالفكر الثوري الذي كان يهيمن على المشهد السياسي والاجتماعي والثقافي في أوربا، خاصة الثورة الفرنسية التي حملت قيما جديدة، وعملت على إدماج اليهود في النسيج المجتمعي، مع الإيمان بأن هذا المبتغى لن يتأتى إلا بالعلم والتحصيل، لذا كان التركيز أولا على خلق شبكة من المدارس التعليمية في إفريقيا الشمالية بحكم الوجود القوي للطائفة اليهودية، مع الاعتماد على المناهج التعليمية الفرنسية.
مثل هذه المشاريع لا تتوقف فقط على النوايا الحسنة لأصحابها، أو ارتفاع نسبة الجهل في صفوف الفئات المستهدفة، أو تحرك الوازع الديني، بل تحتاج إلى جهات مدعمة وقادرة على ضمان استمرارية الرابطة التي تمكنت في ظرف وجيز من خلق إجماع حول نبل المبادرة التي ظهرت في فرنسا وأريد لها أن تصل إلى أبعد النقط تجسيدا للطابع الكوني الذي أريد لها.
بعد سنتين من التأسيس، تقرر إنشاء أول مؤسسة تعليمية ذات طابع خيري في مدينة تطوان، تمكن الأطفال اليهود البسطاء من استكمال تعليمهم، حيث تلقوا أولى الدروس في اللغة الفرنسية والرياضيات والعلوم بمختلف أصنافها، طبعا إلى جانب الدراسات الدينية اليهودية، لكن التعليم العصري أغضب المتشددين اليهود الذين اعتبروا إطعام الأطفال وإيواءهم مجرد «طعم» لتلقينهم «قليلا من الدين وكثيرا من علوم الأوربيين».
في ظل هذا العصيان، اضطر القيادي اليهودي موزيس مونتي فيوري إلى السفر على عجل إلى المغرب، ليس فقط لإقناع بسطاء تطوان بأهمية ربط التعليم بالرعاية الاجتماعية، بل إن الرجل قضى شهرين ونصف الشهر مسافرا بين تطوان والدار البيضاء وفاس، حتى تصبح الرابطة الإسرائيلية في المغرب امتدادا فكريا للرابطة الأم في باريس، مع التركيز على القرى والمداشر الراقدة في جبال الأطلس، مما شجع المدعمين على إرسال المال والتجهيزات إلى هذه المنظمة التي تمكنت في الفترة ما بين 1880 و1914 من فتح العديد من المؤسسات، حتى بلغ عدد المؤسسات 27 مؤسسة في 15 مدينة وقرية، فيما بلغ عدد المستفيدين من هذه المشاريع الخيرية 5000 طفل في بداية عهد الحماية سنة 1912.
مع تقسيم «كعكة» المغرب بين فرنسا وإسبانيا، اضطرت الرابطة الإسرائيلية إلى ضم اللغة الإسبانية إلى البرامج المعتمدة، مع العمل على إقناع الحكومتين الفرنسية والإسبانية بتقديم الدعم اللازم، لاسيما في ظل الانتشار الواسع لهذه المؤسسات وتعهد الحكومة الفرنسية بتمويل 60 في المائة منها، علما أن عدد مرتاديها بلغ في آخر سنوات الاحتلال 33 ألف مستفيد.
ظلت الرابطة اليهودية حريصة على التصدي للمد الصهيوني، قبل أن تشكل محرقة هتلر تحولا في الفكر الإسرائيلي، إذ ترعرع داخله شعور بالتمرد على المبادئ التي أنشئت من أجلها، لاسيما بعد الحرب العالمية الثانية وما تلاها من توغل للفكر الصهيوني في الوسط الطلابي اليهودي، حيث كان تأسيس أول مدرسة عبرية سنة 1945 بالدار البيضاء، وتم بموازاة مع ذلك خلق جمعية لقدماء تلاميذ مدارس الرابطة اليهودية في المغرب، دون أن يتم إقحام اللغة العربية في البرامج، حيث اقتصر الأمر على اللغة العبرية والعربية والفرنسية والإسبانية، إلى أن بزغ فجر الاستقلال فدخلت العربية مدارس اليهود، لكن نقطة التحول الحقيقية هي الرحيل الجماعي لليهود صوب إسرائيل في الستينات، وما ترتب عن هذا الوضع من كساد للمؤسسات التعليمية ومن خلالها مؤسسات الرعاية الاجتماعية، حيث لم يتبق منها في الدار البيضاء سوى روض للأطفال، مدرسة ابتدائية وإعداديتين وثانوية، ومستوصف يدبر من طرف الرابطة، فيما أغلقت كل دور الرعاية أبوابها، وتم وضع مقاربة جديدة لإسعاف ما تبقى من معوزي الطائفة اليهودية بالمغرب.
كان الوضع الاقتصادي والقانوني أيضا لليهود المغاربة معتلا مقارنة مع نظرائهم المسيحيين الحاملين للجنسيات الأوربية، مما كون غضبة صامتة ضد النظام الحاكم، إذ إن يهود الملاح كانوا يقتاتون من التجارة البسيطة والحرف التقليدية التي تكفي بالكاد للبقاء على قيد الحياة، مما تطلب تدخل عدد من المنظمات اليهودية التي عمدت إلى دعوة اليهود إلى الانضمام لجهود التربية والتعليم ومساعدة الأسر الفقيرة على إيواء أبنائها في مجموعة من دور الأطفال التي تلتزم، إلى جانب توفير سبل التمدرس، بالإيواء والتغذية واللباس واللوازم المدرسية.
كيف كان اليهود يعيلون فقراءهم؟
يقول الدكتور محمد الناسك في بحث أكاديمي حول موضوع: «الحياة الثقافية والاجتماعية للطائفة اليهودية بالدار البيضاء في عهد الحماية»، إن «معظم اليهود كانوا يعيشون معيشة ضنكا، سكن غير لائق وسوء تغذية وبطالة، وتسول ودعارة». وهو ما دفع العديد منهم إلى اقتراف سلوكات شاذة رمت بهم في غياهب السجن.
ويضيف الباحث بأن «هذه الأوضاع جعلت لجنة الطائفة تنوء بأعباء ثقيلة، فقد كان لهذه اللجنة الدور الرئيسي في تسيير شؤون يهود الدار البيضاء ومعالجة مشاكلهم الاجتماعية، مما استدعى إعادة تنظيمها للاستجابة لمتطلبات المرحلة، وهذا ما أثار جدلا كبيراً وانشقاقات في صفوف الطائفة بين مساند لمشاريع الحماية ومعارض لها.
لجأ اليهود إلى الاكتتاب الذاتي، ووضع لدى كل تاجر صندوق لجمع المساعدات، حيث كان كل يهودي يضع قطعا نقدية في الصندوق مباشرة بعد التبضع من يهودي آخر، ولم يكن الاكتتاب يقتصر على اليهود، بل قام مجموعة من المسلمين بضخ ريالات في علب وجدت لدى الباعة وعند الحلاقين والحرفيين اليهود.
ومع حلول المساء يجوب عون تابع للرابطة اليهودية أسواق الملاح وخارجه، لاستخلاص النقود التي تم جمعها وتدوين الحصيلة في سجل كبير، قبل التوجه إلى محاسب الرابطة لتسليم المبالغ المستخلصة طيلة اليوم، والتي تخصص للأعمال الخيرية الاستعجالية التي تتطلب سيولة مالية.
لم يقتصر الاكتتاب اليومي على مدينة الدار البيضاء، بل امتد إلى مدن أخرى، بل إنه تجاوز فترة الحماية إلى ما بعد الاستقلال، من خلال اعتماد مفهوم جديد للتكافل شعاره: «قوتنا في تضامننا».
العمل الاجتماعي ليهود مراكش وموغادور.. من الازدهار إلى الكساد
أنجز يوسف داديا، الرئيس المؤسس لجمعية اليهود المغاربة لمدينة مراكش، دراسة معمقة حول بدايات التمدرس اليهودي في هذه المدينة، وتطرق فيها لجذور المسألة التعليمية وعلاقة اليهودي المراكشي بالفصل الدراسي ودور الرابطة الإسرائيلية في دعم جهود التمدرس ومحاربة الهدر ومنع إقبال الأطفال على امتهان الحرف البسيطة، ومدى الإقبال على التمدرس في ظل توفير دار للرعاية الاجتماعية تمول من التجار اليهود والرابطة العالمية.
ويروي جاكي كادوش، رئيس الطائفة اليهودية بمراكش والصويرة، في مذكراته عن الموافق الاجتماعية التي كان يزخر بها الحي اليهودي، والذي أصبح يحمل اسم حي السلام، «كان عدد اليهود في حي الملاح بمراكش 27 ألف قاطن، وهو المكان الذي ولدت فيه، وعشت فيه لمدة أربع أو خمس سنوات من عمري. أتذكر جيدا هذا الحي «الملاح»، وأتذكر كنائسه التي كان يبلغ عددها ما بين 40 إلى 45 كنيسا، نصف العدد موزع بين المدارس والمصحات وداخلية تؤوي الأطفال الفقراء العاجزين عن تحمل نفقات الدراسة. تحت وطأة الاحتلال الفرنسي للمغرب، كان لا يسمح لليهود العيش خارج الحي اليهودي. وبعد الاستقلال سنة 1956، منح الملك محمد الخامس الإذن لليهود بالعيش حيث رغبوا. والآن انخفض عدد الطائفة اليهودية بمراكش إلى أقل من 200 شخص، ويرجع ذلك أساسا إلى جيل الشباب الذين يدرسون ويستقرون في الخارج، مما أجهز على كل المرافق الاجتماعية».
الحديث عن العمل الاجتماعي اليهودي في مراكش لا يستقيم إلا بترديد عبارة «يا حسرة»، إذ تعتبر سنة 1900 تاريخا هاما في مسار العمل التربوي بالمدينة، حيث تم تدشين أول مؤسسة إيوائية للأطفال اليهود، وكان يرأس المدرسة حينها يشوا كوركس، الذي ووجه من طرف اليهود بانتفاضة دعته إلى تغيير البرامج وعدم الارتماء في الفكر المسيحي، باعتماد برامج مستوردة من أوربا وتحديدا من فرنسا.
وفي سيرة حياته يتحدث عريق ديلويا، الباحث في المجال الزراعي المقيم في باريس، المتنقل بسبب أبحاثه بين فرنسا وإسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية وكندا والهند ثم المغرب، عن علاقته بأبناء دار الرعاية المراكشية منذ طفولته إلى أن غادر المدينة صوب إسرائيل سنة 1964، وعن عمله التطوعي الذي لم ينقطع مع أطفال غزة، إذ كان همه تقديم يد العون إلى الأطفال المعوزين الذين غادروا «خيريات» المملكة الشريفة واستقروا في إسرائيل، دون أن تعرف أوضاعهم المعيشية استقرارا، «اشتغلت بشكل تطوعي منذ سنة 1970 كمرب في الأحياء الهامشية التي كان يقطنها يهود مغاربة استبدلوا الفقر بالعوز».
من القصص المثيرة، التي جادت بها أدبيات المخابرات الإسرائيلية، قصة عميل الموساد أموس هاريل الذي زار المغرب سنتي 1959 و1960، حيث ركز على الأطفال الذين كانوا يعيشون في أوضاع صعبة، وأغلبهم من نزلاء المرافق الخيرية اليهودية، وقام بتهجيرهم إلى «أرض الميعاد»، كان العميل مكلفا بتنظيم الهجرة السرية إلى إسرائيل، وفي 11 يناير 1961 قام بترحيل عدد كبير من الأطفال إلى خارج المغرب بتنسيق مع الوكالة اليهودية، فاق عددهم 530 طفلا وشابا ينحدرون من مؤسسات الرعاية الاجتماعية مكنهم من تجاوز الحدود تحت ذريعة «تنظيم مخيم صيفي للمعوزين في سويسرا»، لكن الوجهة الحقيقية كانت إسرائيل.
خيرية اليهود بالدار البيضاء تتحول إلى متحف
في منطقة حي الوازيس بالدار البيضاء، تم في نونبر من سنة 1948 بناء دار للأطفال تعنى بتمدرس وإيواء الأطفال اليهود المغاربة. كان مردوخ هو الرئيس المؤسس، وبعد وفاته تقلدت أرملته سيليا بينجيو، التي لم يكن لها أبناء، مسؤولية رئاسة هذه المؤسسة التي أنجزت على مساحة قدرها 600 متر مربع، وفاقت طاقتها الإيوائية 200 طفل، ذكورا وإناثا. خصصت الجمعية الخيرية اليهودية مقر الدار للإيواء والتغذية، بينما كانت المدرسة الابتدائية التابعة للرابطة اليهودية في الزقاق نفسه، وهو ما جعل المدرسين يوصون تلاميذهم الميسورين باستضافة أصدقائهم المعوزين، زوال كل يوم سبت، في بيوتهم ومشاركتهم وجبات الغداء والمكوث معهم في رفقة عائلية إلى أن يحين المساء، حيث يعود نزلاء المرفق الخيري إلى دار الأطفال بعد لحظات انسجام، يتم خلالها تذويب جدار الإمكانيات الفاصل بين الفقراء والأغنياء.
عرفت هذه المؤسسة أوجها في بداية الستينات، مع مديرها بن شتريت، وهو أحد مؤسسيها قبل أن يرحل إلى كندا ويعوضه مارسيانو، وشهدت ازدهارا كبيرا وتحولت إلى ملاذ للفقراء ومقصد لكثير من المحسنين اليهود الذين تجاوزت عطاياهم الجوانب المادية إلى تقديم دروس للدعم وتنظيم خرجات ترفيهية.
ومن أشهر نزلاء هذا المرفق المطرب بوزاكلو، الذي توفي في مدينة حيفا بفلسطين سنة 1975، وكان منشطا للتلاميذ في سهراتهم، كما أقام أفراد من عائلة أبيقسيس اليهودية المغربية، في دار الرعاية قبل أن يتحول إلى روائي كبير. إضافة لفيليكس ويزمان، الفنان اليهودي المغربي، وهو من مواليد مدينة آسفي سنة 1937م، واسمه الأصلي، رحل مع والديه ريكا ومايير إلى الدار البيضاء وعمره 10 سنوات، واشتغل خياطا قبل أن يحال على «الخيرية»، برزت مواهبه في الموسيقى الشعبية التي تألق فيها حتى اشتهر بين المطربين، وتألق شلومو عمار في مجال الدين، وتخرج يهودا لانكري من المؤسسة نفسها ليجلس في البرلمان الإسرائيلي، ثم مردخاي بن جيمو الذي أصبح بطلا كبيرا وإحدى الدعامات الكروية في «أرض الميعاد».
وتتحدث أدبيات هذا المرفق عن قدرة الرئيسة، بينجو، على استقطاب زوجات الأعيان، خاصة القناصل والتجار الكبار والقواد العسكريين، إذ كانت زوجة قائد القاعدة الجوية الأمريكية للدار البيضاء حريصة على دعم هذه «الخيرية» بحكم جوارها من الدار. كما أن الرئيسة كانت تخصص حيزا من وقتها لإحياء سهرات بحكم ميولاتها الفنية.
يقطن المدير مارسيانو الآن في موناكو الفرنسية، وحين يأتي إلى المغرب يصر على زيارة دار الأطفال التي تحولت إلى متحف، حيث قاد حملة على شبكة الأنترنيت لجمع شتات قدماء نزلاء هذه المؤسسة، داعيا إلى تأسيس إطار جمعوي يوحد أطفالا أصبح أغلبهم في غرفة القرار السياسي في إسرائيل وكندا.
أمام النزوح الجماعي لليهود ومغادرتهم للمغرب، اضطرت المدارس إلى إغلاق أبوابها وأفرغت دار الرعاية اليهودية من نزلائها، قبل أن تقوم الرابطة بنقل ما تبقى من أطفال إلى مؤسسة أخرى بمنطقة أنفا، غير بعيد عن شارع بوردو، وخصصت للأيتام والعجزة، لكن الطائفة غيرت من استراتيجيتها الخيرية، ووزعت ما تبقى من أطفال ومعوزين على بعض العائلات اليهودية البسيطة، مقابل دعم مالي للأسر المحتضنة للأيتام، وتحويل مقر الخيرية إلى مستوصف صحي يعالج فيه ما تبقى من يهود بشكل مجاني.
مكناس.. معيمران الراعي الرسمي لليهود
على غرار جميع المدن التاريخية المغربية، عرفت مكناس حضورا لافتا لليهود المغاربة، لاسيما في ظل وجود ملاحين، الملاح القديم الذي يوجد في حي بريمة، والملاح الجديد بالقرب من حي الرياض.
تعود نشأة الملاح القديم إلى سنة 1540، وحين تولى السلطان المولى إسماعيل الحكم وحول المدينة إلى عاصمة للدولة، شجع على استقرار الطائفة اليهودية وشرع في توسيع الحي اليهودي وبناء حي آخر يستجيب للنمو الديموغرافي، خاصة في ظل الهجرة نحو العاصمة الإسماعيلية، نتيجة الوئام الوطني المعلن من طرف السلطان والذي كان من نتائجه تعيينه لمستشارين يهود وضمهم إلى بطانته، خاصة يوسف معيمران الذي فاق صيته كل الوزراء.
كان لابد من إنشاء مدرسة تدرس أبناء اليهود العبرية، وتمكنهم من الإلمام بالأمور الدينية، إلا أن هذا الحلم تأجل إلى عهد الحماية الفرنسية، خاصة بعد الشروع في إنشاء الملاح الجديد سنة 1920، وذلك بفضل عائلة بيرديغو التي حرصت على أن يكون المجال الجغرافي الجديد ليس مجرد مرقد جماعي، بل حيا بكل مقوماته الإنسانية بوجود مؤسسات اجتماعية على غرار المعبد والمدرسة و«الخيرية» والمصحة والفرن والحمام..
انتهى العمل في الحي اليهودي الجديد، لكن أول مدرسة يهودية رأت النور في هذا الملاح تعود إلى سنة 1930، وتسمى المدرسة العبرية للتوراة، والتي كانت كغيرها من مدارس الرابطة مقرونة بمرفق خيري، الغاية منه إيواء الأطفال المعوزين ومساعدتهم على استكمال تعليمهم.
في باب لخميس يمكن الوقوف الآن على معلمتين طواهما النسيان وأصبحا جزءا من الذاكرة الإنسانية لليهود، المدرسة العبرية لتعليم التلمود والتوراة، وبوابة المقبرة اليهودية التي يرجع تاريخها إلى سنة 1800.
لم تخرج هذه المؤسسة الاجتماعية عن نمط بقية المؤسسات، في تدبيرها ومناهجها، حيث كانت العلوم الدينية تأخذ نصيبها الأكبر، لكن الاختلاف الوحيد يكمن في اكتظاظ المؤسسة الإيوائية التي لا تسع ساكنة حيين يهوديين.
الآن تقلص عدد اليهود إلى أقل من 300 فرد بعد الزحف الجماعي نحو إسرائيل في ما بين سنتي 1950 و1960، وتقلصت معه شبكة العمل الاجتماعي، لكن أبناء المؤسسة السابقين لن ينسوا مايير شتريت القادم من قصر السوق، والذي تحول إلى وزير للداخلية.
مستشفيات اليهود تتحول إلى دور للعجزة
لليهود المغاربة نصيب من المتسكعين ككل الجنسيات، ولهم فئة واسعة من المسنين الذين قست عليهم الظروف، فانتهى بهم المطاف على سرير في مستشفى قديم تحول إلى دار لرعاية عجزة في وضعية اجتماعية وصحية صعبة.
يذكر سكان الملاح الأولون العديد من اليهود الذين كانوا يتسولون في الشوارع بحثا عن لقمة عيش، ومنهم من كان يتسكع في الدروب العتيقة ويقضي لياليه مخمورا رافضا الإيواء القسري في دار للعجزة.
تقول الروايات الشفوية والمكتوبة إن الرباطيين كانوا يلتقون يهودا يعانون من الارتجاج، ويتداولون اسم زليخة «إيترو» التي حملت هذا اللقب، لأن قنينة ماء الحياة لم تكن تفارقها، لتشكل إلى جانب متسكع آخر يدعى، بونافح، ثنائيا يقود كتيبة اليهود المتشردين.
لكن بعد الرحيل الجماعي لليهود المغاربة إلى إسرائيل ودول في أوربا وشمال أمريكا، تحولت مستشفيات اليهود إلى ملاجئ لما تبقى من عجزة اختاروا البقاء في المغرب بدل السفر إلى «أرض الميعاد»، قبل أن تتحول أغلب هذه المرافق إلى مصحات تابعة للأعمال الاجتماعية للطائفة اليهودية تقدم خدمات صحية إلى ما تبقى من يهود.
في ليلة الثاني من أبريل 2010، تحولت الجرافات صوب مستشفى بن شيمول في طنجة، والذي كان يؤوي بضعة عجزة يهود اختاروا العيش في هذا المرفق بدل التسكع في شوارع المدينة.
في لحظة استنفار سلطوي، دمر الملجأ عن آخره، دون أن يعرف والي المدينة الذي صدر عنه قرار الهدم، أن الإجهاز على أقدم مستوصف في المدينة تزامن مع مناسبة دينية لليهود. لم يكتف قائد المنطقة بتنفيذ تعليمات الوالي، بل أمر باعتقال حارس المؤسسة الذي حاول الوقوف في وجه آلات الهدم، كما كسر هاتفه النقال حين شرع الحارس في ربط الاتصال بأعضاء الطائفة اليهودية لإشعارهم بالنازلة. والنتيجة غضبة يهودية عارمة وتشريد مجموعة من العجزة كانوا يقطنون الفضاء الذي طاله مسح رهيب.
تقاطرت على والي طنجة عشرات الرسائل المنددة بالقرار، وتبرأ هذا الأخير من تهمة الإجهاز على ذاكرة اليهود، مؤكدا أن المجلس البلدي هو صاحب القرار الصادر في نونبر 2008. وبفضل الاجتماعات التي عقدت في مكتب الوالي بحضور قيادات يهودية نافذة تم تطويق القضية، تم الاتفاق على تعويض الوعاء العقاري المُصادر بقطعة أرضية لفائدة الطائفة اليهودية بطنجة، وتم طي الملف بشكل نهائي حتى لا يؤول على نحو آخر.
يهودي «ولد الخيرية» في قبضة أوفقير
في سنة 1962 اعتقل اليهودي، روني كامي، واقتيد تحت جنح الظلام إلى معتقل سري، حيث خضع لسلسلة استنطاق، كلها تتعلق بمساره المهني وما إذا كان مشروع جاسوس. بعد مرور شهرين من الأسر دون محاكمة، تم استدعاء روني وهو مكبل الأطراف إلى مكتب مسؤول تبين في ما بعد أنه محمد أوفقير.
«كان المكتب في آخر الممر الطويل، وكنت مثقل الخطى لا أساير خطوات حراس المعتقل، قال لي بنبرة حادة، أنا على علم بكل تحركاتك لفائدة المغاربة بصفتك قياديا في منظمة «الشباب النشيط» التي تهدف إلى تكوين قيادات مناضلة، وواجهني بتهمة حشر أنفي في جلسة تفاوض بين قيادات حزبية مغربية، واعتبرني عميلا لجهة وصفها بالخارجية، وقال لي إن تحركاتك تحت المجهر وإن دخولك عالم الكشفية ليس مجهولا من طرف النظام المغربي، قدمت إليه سيرتي كنزيل سابق لدار الأطفال اليهودية، وحاولت أن أوضح له الخلل الحاصل في مذكرة الاعتقال، لكن واجهني بصوته الجهوري وقال إن الخلل الكبير يوجد في منظومة الخيريات التي يتخرج منها سنويا كثير من المارقين، وطالب بتمديد وضعية الاعتقال إلى أجل غير مسمى».
وجدة.. خيرية سان موريس في خبر كان
يطلق يهود المنطقة الشرقية على دار الأطفال التي كانت تؤوي أيتام وعجزة وجدة والنواحي، اسم سان موريس، بالقرب من شارع باستور. ما ميز هذه المؤسسة الخيرية عن غيرها من دور رعاية اليهود، أنها زاوجت بين العمل الخيري في بعده الإحساني والعمل الترفيهي، حيث كانت ملاذا في العطل الدراسية لمئات الأطفال المهووسين بالعمل الكشفي.
أنشئت هذه المؤسسة في 12 أبريل 1920، وكان أول من ترأس المجلس الإداري للجمعية الخيرية رجل تربية يدعى لوبييس. لكن أغلب قدماء وجدة أو ما يصطلح عليهم بـ«أولاد لبلاد» يذكرون أن هذا المرفق الاجتماعي كان يسمى «نقطة الحليب»، حيث كانت المنظمة اليهودية توزع على العائلات المعوزة علب الحليب الخاصة بالرضع، بموازاة مع العمل التربوي الذي تضطلع به.
في «ذاكرة يهود المنطقة الشرقية» نلمس مدى إقبال اليهود الفارين من بطش الإسبان على هذه المدينة الحدودية، قبل أن يهرب إليها في فترة زمنية سابقة يهود قادمون من الجارة الشرقية.
لكن الكتاب يشير إلى وجود مؤسسة خيرية بمفهوم تضامني تقليدي، في قرية صغيرة تدعى، دبدو، التي استقطبت أعدادا كبيرة من اليهود، حتى تحولت إلى ملاح مفتوح. عاش الأطفال الفقراء على سخاء قلة من الميسورين، وكان الطفل يتلقى تمرينا عند أحد الحرفيين إنقاذا له من التسول والضياع، رغم أن الرعي والعمل الفلاحي كان يستهوي فئة واسعة من الأطفال.
تطوان.. المدينة الأولى في التدريس والأحزان
في 23 دجنبر من سنة 1862، وضع حجر الأساس لمشروع أول مدرسة يهودية أريد لها أن تخرج إلى الوجود، وشرع العمال في بناء مؤسسة تعليمية بها ملحقة لإيواء التلاميذ المعوزين، المشروع تم بتمويل من الرابطة اليهودية العالمية. في تلك الحقبة الزمنية لم يكن المستعمر الإسباني قد وضع يده بعد على المنطقة الشمالية، مما شجع مؤسسي المنظمة اليهودية على ربط الاتصال باليهودي، ميناهيم ناهون، الذي كان يشغل منصب نائب القنصل الفرنسي في تطوان، وهو من مواليد هذه المدينة التي كانت تعرف حضورا قويا للطائفة اليهودية. لقيت المبادرة دعما من ليفي كازيس، أحد أعيان المدينة والذي أطلق حملة لجمع التبرعات ساهمت في إنشاء خيرية تعليمية للبنات. ومع مرور الأيام بدأت الدفعات الأولى تشق طريقها في درب التربية والتعليم، بل إن دافيد كازيس الذي تخرج من مدرسة تطوان تحول إلى مدير لها قبل أن يشغل المنصب نفسه في دول أخرى كتونس، اعتمادا على خبرته التي تزاوج بين الجانبين التعليمي والإنساني.
كانت المؤسسة توجد في درب «السكويلة» مما يؤكد ارتباط المكان بدار الأطفال، لكن تقريرا مشتركا، يحمل توقيع مديري مؤسستي الذكور والإناث، يؤرخ لهذه الفترة المفصلية في تاريخ المسألة التعليمية اليهودية، ويؤكد استفادة 116 طفلا من خدمات الرابطة اليهودية، مقابل 61 فتاة. التقرير قدم تفاصيل أدق حول الفئة العمرية للنزلاء.
«20 طفلا من أبناء الباعة يغادرون الدراسة ويفضلون ممارسة التجارة في أدنى مستوياتها، مقابل 70 طفلا مصنفا في خانة المعوزين، يتناولون وجبات غذائية عبارة عن حساء ساخن في الظهيرة ويستفيدون من الإقامة والألبسة، شريطة استمرارهم في متابعة تعليمهم على الوجه الأكمل».