مذكرات متسكع في الجامعة
كان أسوأ يوم من أيامي المنجرفة نحو الجحيم عندما قررت الالتحاق بالجامعة، وكان أسوأ عندما نجحت في الباكالوريا بحيلة لا تنطلي على أحد. ربما لو لم أقرأ كُتبا تفقهني ولم أعرف ما يروج في هذه البلاد، ولم أضع قدمي في واد جارف، لما كتبت هذه الحروف، ولما لعنت أحدا، ولما كشفت خبث أحد، ولما ندمت على أيامي الجامعية.. ربما كنت سأكون نجارا أو جباسا أو معلما بَنَّاءً أو حارسا خاصا أو آلة في شركة، لأنهم يحبذون أصحاب المستويات التعليمية المتدنية، الذين لا يطالبون بحقوقهم، بل إنهم يجهلون أبسطها. أما حاملي الشهادات العليا فيخشون منهم وينصحونهم بالاعتصام أمام المؤسسات الرسمية، وربما كنت سأكون لصا أو نصابا. لكن أن أكون عاطلا يحمل شهادة جامعية يخجل من تعليقها في حجرته، قضى مرحلة عمرية بلا جدوى، متسكعا في أرجاء الكلية نهارا وغاسلا للصحون في المطاعم ليلا، وقارئا لكتب كثيرة بعيدة عن مقررات الجامعة التافهة في الأوقات الكئيبة للتداوي، وضائعا في آخر المطاف في الأحراش، فلعمري، أسوأ سيناريو حياة مشؤومة يتربص بأي امرئ.
في الجامعة لم أكن أكثر من متسكع، كمن يتجول في ساحة الخبازات أو باب الأحد، لأننا كنا نعرف مسبقا ألا جدوى من الجامعة وأنها عبارة عن مصنع للعطالة لا أقل ولا أكثر. أنا كنت أسميها «الكَلِّيطو» عندما كان يسألني أحد عن وجهتي، ولكم أن تبحثوا عن مصدر هذا المصطلح. هكذا أوحى إليّ إلهامي اللعين بهذه المقارنة، لأنها تشبه ذلك الحي المائع كثيرا؛ أساتذة تجار وسماسرة، يجبرون طلبتهم على شراء كتبهم عديمة الفائدة التي تبتر وتسلخ بحوث الطلبة، وآخرون يحددون أثمان الماستر والدكتوراه بوقاحة، والبعض الآخر يتحرش بالطالبات ويبتزهن في المكاتب الخاصة، اللعنة على تلك المكاتب لقد رأيت فيها ما يدمي القلب ويحرض على الجنون. والعجيب في هذه الجامعة التي لفظتني كما استقبلتني في الأول، فارغا ومريضا نفسيا، أن حتى بعض الأستاذات كن يبتززن الفحول المثيرين بطولهم وبشعيرات صدورهم فيتسابقن للإشراف على بحوثهم.
في الجامعة يمكنك توقع كل شيء كما في المواخير، فهي ملاذ عشاق الجنس اللطيف الذين يرابطون بسياراتهم أمام الأبواب ويملؤون الشارع على طوله كالموكب، ويغمزون بأضواء السيارات لإغراء الأنوثة الجائعة التي أهملها أهلها الجياع بدورهم وتركوها تقفز في محمية كلها ذئاب. مخدرات فتاكة تتربص بك في كل الأرجاء، ولأن كثيرا من شبابنا محروم وجاهل، فإن الهم الذي يشغل تفكيره إشهار لفافة حشيش أمام العلن للتعبير عن نفسه وسخطه، وكأن تلك اللفافة سترجع له كرامته المهضومة أو تسلب لُبَّ فتاة رائقة أو تقبر هموما كثيرة، لكنها توقد لهيب تلك الجمرة المتهالكة. دعارة علنية رخيصة في الأركان، تنشد ثمن ساندويتش وتدفع بجسدها. حرب السواطير والسيوف التي تذكيها حمية الأحزاب في قبة السيرك وفي الكواليس، فتنتقل شهبها إلى الحرم الجامعي لتدنس فضاءه وتنشر الرعب والدم في الأرجاء، ما يستدعي اغتصابا مخزنيا للقداسة العلمية، وحصد كل الأجساد التي تقف أمامه كما لو كان غزوا بابليا. تليها أسابيع من المقاطعات الدراسية والاحتجاجات التي تتواصل إلى حدود آخر السنة، فينجح المقربون والمدعومون والوسطاء وواهبات الأثداء والأطراف الأخرى ويخفق المجدون. هذه هي الجامعة، حالات من الإثارة المحمومة والانحلال والتسيب والنفاق والفساد، وأشياء أخرى.
لم تصبني أي آفة من آفات الجامعة، كنت حذرا من سيولها الجارفة، لكن خيبتي كانت كبيرة، وإن كنت مستاءً من شيء، فمن تلك السنوات التي ضيعتها بين جدرانها متسكعا تائها لا ألوي على شيء. ومن رحى تلك الخيبة التي رسمتها منظومة فاشلة، أطر شياطين في جبة حيوانات، أذكرهم دائما ولا أظن سأنساهم، ولا بأس أن أذكرهم بأفعالهم إن نفعتهم الذكرى، منهم شمبانزي كان مختصا في رصد الموز الحلو والكرز الفتي ليضعه أمامه في مكتبه الخاص بالكلية لإحياء رجولة ميتة لا تنتفض إلا بسلوك شاذ، ومنهم فرس نهر ـ وهذه التسميات ليست اعتباطية وإنما نابعة من الشبه ـ يعاني عقدا نفسية مع الطلبة المجدين الذين يحرجونه ببحوثهم وبمداخلاتهم الناضجة، ومنهم ذلك الخنزير المثلي الذي يبتز الذكور ويستميل الإناث لإزاحة الشبهة، لكن أخباره كانت لا تخفى على أحد حتى على المسؤولين وأولياء الطلبة الذين يدعون عليه بأخبث الأمراض ويستعجلون له جهنم. ومنهم ذلك المسلك القبيح الذي لا يختار سوى النساء في تكوينه، ومنهم تلك الدجاجة الثرثارة التي تحمل أخبار وسطها وتأتي لتحكي للطلبة عن حياتها الخاصة في البيت واجترار حواراتها مع الجارات، ومنهم تلك المطلقة المكبوتة التي تأتي لتستعرض على الطلبة شحومها المترهلة ولتحكي عن أمجاد أبي البقاء الرندي، لأنه الوحيد الذي تذكره وربما الوحيد الذي تدخره في مسيرتها التي استنزفت أموال الدولة منذ زمن طويل بلا فائدة. بدون الحديث عن المتون التي تُدرس في الجامعة. أخجل من ذكرها، سأجرد بعضا منها ليعرف القارئ كم هي سخيفة ومخجلة ولا تجدر بالذكر. أستاذ يدرس في فصلي السنة، وفي كل سنة منذ توليه مهمة التدريس في الكلية، مادة واحدة، في كل فصل ينشر مطبوعا عبارة عن مقال باللغة الفرنسية. درسته عنده في السنة الأولى وفي السنة الثالثة من الإجازة وفي سلك الماستر أيضا، حتى كرهت الفرنسية وما يأتي منها، يا للبشاعة والسخافة! وأستاذ آخر يدرس البدل منذ تعيينه لأن أستاذا آخر عاقبه بمشروع بحث عن البدل، لأنه كان يخطئ فيه أيام دراسته الجامعية. والشهادات البشعة لا تحصى… هل هذه هي الجامعة؟ هل هذا هو البحث العلمي والأكاديمي؟ هل هذا هو مستقبل أولاد هذا الوطن؟