محاولة للفهم
عادة، عندما ترتفع درجة الحمى في جسم الإنسان، فهذا مؤشر على أن التهابا يحدث في مكان ما من الجسم. البعض يعتقد أن الحمى مرض فيلجأ إلى محاولة خفضها ظنا منه أن ذلك يعالج الداء، والحال أن الحمى ليست مرضا، بل مجرد مؤشر على وجود مرض.
لذلك فالأحداث التي وقعت خلال الأسبوعين الماضيين بين باريس والرباط، ليست سوى أعراض حمى شديدة أصابت العلاقات المغربية- الفرنسية، ولفهم أسباب هذه الحمى يجب البحث عن مكمن المرض الحقيقي لمعالجته، عوض الاكتفاء بمحاولة معالجة أعراضه الظاهرة.
وقبل أن تتزاحم الغيوم الداكنة فوق سماء العلاقات بين باريس والرباط، تلقت سفارة المغرب بباريس صفعة مؤلمة عندما وضعت شكاية ضد القائم بالأعمال في السفارة ونشرت الصحافة الفرنسية فحوى مكالمة تجمعه مع الثري داسو، مالك مجموعة «لوفيغارو» ومجموعة «بومبارديي» لصناعة الطائرات، حول إمكانية اعتقال فرنسيين من أصل مغربي فور وصولهم إلى المغرب، حيث طلب داسو وساطة السفارة المغربية ضد بعض العائلات من أصل مغربي كانت تضايقه وتقطن في كوربي إيسون.
ولعل ما يزيد من حساسية هذه العلاقة المفترضة بين داسو وموظف السفارة المغربية، هو الاتهامات التي تحوم حول تمويل داسو لحملة ساركوزي الانتخابية بشكل غير قانوني. وربما شعرت المخابرات الفرنسية أن الأحياء التي تقطن بها الجالية المغربية يمكن أن تشكل، بمساعدة أموال الملياردير داسو، قاعدة انتخابية قد يستند عليها ساركوزي من أجل عودته إلى مضمار التنافس على العودة إلى قصر الإليزي.
وهنا اشتغلت الأضواء الحمراء في مقرات الأجهزة الأمنية الفرنسية، ورفعت الحصانة عن داسو من مجلس الشيوخ لكي يتمكن القضاء من استجوابه.
وبعد هذا الحادث ارتفعت درجة الحرارة في الجانب الفرنسي بشكل مفاجئ، وظهرت على شكل ضربات تحت الحزام موجهة بإحكام إلى المغرب. فقد بثت قناة «كنال بلوس» الفرنسية برنامجا متحيزا حول الصحراء، وبعد يومين خصصت القناة الفرنسية الثانية، حلقة من برنامجها «Complément d’enquête»، الذي يسجل نسبة مشاهدة مرتفعة، حول تقنين زراعة القنب الهندي، كالت فيه اتهامات مباشرة لجهاز الدرك والأمن بالتواطؤ مع تجار المخدرات.
وقبل أن ينتهي الأسبوع، أي يوم عشرين فبراير، والتاريخ هنا ذو دلالة بالغة لكونه يتزامن مع الذكرى الثالثة لميلاد «حركة عشرين فبراير»، انتقل رجال أمن فرنسيين لابسين أقمصة واقية من الرصاص، إلى مقر إقامة السفير المغربي بباريس، لكي يسلموا استدعاء بالحضور موقع باسم القاضية الفرنسية «صوفي كيريس»، إلى المدير العام لإدارة مراقبة التراب الوطني، لكي يمثل أمامها للإجابة على أسئلة لها علاقة بشكايات وضعها معتقلون مغاربة حاصلون على الجنسية الفرنسية لارتباطهم بفرنسيات، يدعون فيها تعرضهم للتعذيب.
وفي غمرة «الالتهاب» الدبلوماسي الذي ظهرت أعراضه الجانبية من خلال رفض المغرب استقبال «نيكولا هيلو»، الممثل الخاص للرئيس الفرنسي، لحضور ندوة حول «مستقبل كوكب الأرض»، طفا على السطح تصريح جارح يصف المغرب بعشيقة فرنسا منسوب إلى سفير فرنسا في واشنطن «فرانسوا دولاتر»، تكفل بنقله الممثل الإسباني «خافيير بارديم» في برنامج «النشرة الكبرى» على «كنال بلوس.»
ارتفعت درجة الحرارة وطلب المغرب توضيحات. قرأ وزير الاتصال بلاغا حادا، وأصدرت الوزيرة المنتدبة في الخارجية، الصحراوية بوعيدة، بلاغا هي الأخرى لا يقل حدة. فيما قرر وزير العدل تعليق العمل بجميع الاتفاقيات القضائية الموقعة بين باريس والرباط، فطالما أن الإجراء الذي قام به القضاء الفرنسي لم يحترم بنود هذه الاتفاقية القضائية، فإن وزارة العدل المغربية لم تر فائدة في استمرار العمل بها.
كل هذه الحوادث الدبلوماسية المحمومة ليست سوى أعراض، فيما المرض الحقيقي الذي تسبب في ارتفاع درجة الحرارة يوجد في مكان آخر.
ما يقض مضجع الدولة الفرنسية هو أنه في أفق 2050 ستتوفر القارة الإفريقية على ملياري مستهلك. هذا الرقم فتح شهية المؤسسات المالية المغربية التي تبحث عن توسيع هوامش استثماراتها وأرباحها.
ولذلك فمنذ 2008، استطاع «التجاري وفا بنك» الاستحواذ على 81 في المائة من رأسمال القرض الكونغولي، و51 في المائة من رأسمال الشركة الإيفوارية للبنوك، و65 في المائة من رأسمال الشركة الكاميرونية للبنوك، و59 في المائة من رأسمال الاتحاد الغابوني للبنوك، و95 في المائة من رأسمال بنك القرض السنغالي. وبذلك يكون البنك المغربي أول بنك بالكامرون وبالكونغو برازفيل، والبنك الثالث بالغابون، والرابع بالسنغال، ثم البنك السادس بالكوت ديفوار، التي تعتبر بالنسبة إلى فرنسا مركز الثقل الاقتصادي، والتي أعلن منها الملك في خطاب المنتدى المغربي- الإيفواري، أن إفريقيا بحاجة إلى نموذج إفريقي يقطع مع النماذج الخارجية، وأن إفريقيا ليست بحاجة إلى مساعدات إنسانية، وإنما إلى شراكات ذات نفع متبادل. وهي الرسالة التي تلقتها فرنسا بوصفها المستعمر القديم الذي فرض نموذجه الاقتصادي والديني على مستعمراتها السابقة، وفهمت مضامينها.
أما مجموعة البنك المغربي للتجارة الخارجية، فتتواجد في 19 بلدا إفريقيا، بواقع تغطية لسكان القارة السمراء تصل نسبته إلى 35 في المائة، وهي نسبة تغطية تراهن مجموعة البنك المغربي للتجارة الخارجية على رفعها لتصبح 64 في المائة في أفق 2015.
وإلى جانب هذين العملاقين الماليين، اللذين وضعا مخططا محكما يمتد لعشر سنوات من أجل «غزو» إفريقيا، هناك الذراع الثانية لهذا العملاق وهي قطاع التأمينات. هذا المجال تكلفت به مجموعة «ساهام فينانس» المتواجدة حالياً في 15 دولة في إفريقيا، بامتلاكها لحوالي 20 شركة تأمين، وشركة إعادة تأمين، وشركتَي خدمات. كما تستحوذ عبر فرعها «كولينا» على المرتبة الثانية في مجال التأمين العام والتأمين على الحياة في دول غرب إفريقيا الفرنكوفونية الإحدى عشرة، بحصة سوقية تبلغ 11 في المائة.
وحيثما توجد البنوك وشركات التأمين لا بد أن تتواجد شركات العقار. وهكذا فبعد الكاميرون وغانا وكوت ديفوار، دشنت شركة «إسمنت إفريقيا» التابعة لمجموعة «الضحى»، مصنعا لإنتاج الإسمنت بواغادوغو، عاصمة جمهورية بوركينا فاصو، بقدرة إنتاجية سنوية تصل إلى 500 ألف طن.
وعلى خطى «ضحى» الصفريوي سارت «أليانس» العلمي لزرق، حيث أعلنت المجموعة العقارية عن إطلاق ثلاثة مشاريع كبرى بدول السنغال وكوت ديفوار والكونغو برازافيل.
أما أبناء برادة فقد أعلنت شركتهم «بالموري»، أنها ستبني 10 آلاف سكن اجتماعي بكوت ديفوار، أما البنك الشعبي فسيبني 5500 قسم لوزارة التعليم الإيفوارية، فيما البنك الشعبي سيضخ 218 مليون أورو في الاقتصاد الإيفواري.
وهكذا إذا كانت فرنسا قد أنزلت جيشها لكي يدرب ويسلح العسكر المالي، لحراسة مناجم اليورانيوم مصدر مولدات الطاقة النووية الفرنسية، فإن المجموعات العقارية المغربية ستبني ثكنات لأفراد الجيش المالي ومساكن اجتماعية للجنود والمدنيين ومدارس للتلاميذ.
وبما أن الإنسان لا يعيش بالإسمنت بل بالخبز كذلك، فإن الوعي بكون إفريقيا ستكون في السنوات المقبلة سلة غذاء العالم، فقد قرر المغرب، صاحب أكبر احتياطي للفوسفاط في العالم، تخصيص أحد المصانع الأربعة للأسمدة والمخصبات الزراعية التي يبنيها المكتب الشريف للفوسفاط في الجرف الأصفر لتموين الأسواق الإفريقية.
وهذا الانفتاح على السوق الإفريقية سيعطي المغرب إمكانية إنشاء أرصفة ومخازن في الموانئ الإفريقية، كما فعل في البرازيل التي يتوفر فيها المغرب على أرصفة تسمح له انطلاقا منها بتوزيع الفوسفاط على كل زبائنه في أمريكا اللاتينية.
طبعا اتخاذ قرار تخصيص مصنع كامل للأسمدة والمخصبات موجه نحو إفريقيا، لم يمر دون إثارة حنق فرنسا التي تحتكر تأمين تسويق الفوسفاط المغربي في إفريقيا، مقابل احتكار الاستفادة من اليورانيوم المستخرج من هذا الفوسفاط.
لذلك فطموح المغرب إلى التواصل مباشرة مع زبائنه الأفارقة، بدون وساطة فرنسية، جعل الفرنسيين يشعرون بأن المغرب بدأ يشب عن الطوق وأصبح، بفضل شبكة بنوكه وشركات تأمينه ومجموعاته العقارية المنتشرة في دول إفريقيا الفرنكفونية، يفكر في التحليق بأجنحته الخاصة