شوف تشوف

الرأي

مثقفون داخل القصر الملكي

يحتفظ المحامي إدريس العبدي بصورة نادرة ضمت مجموعة من المثقفين كتابا ومبدعين ومفكرين، وجدوا أنفسهم يوما أمام الملك الراحل الحسن الثاني في قصر الصخيرات. كان حضور العبدي ضمن فعاليات ثقافية اهتمت بملامسة الواقع السياسي، من منظور صراعات الأفكار. واعتلت في حينه موجة عارمة برسم البحث في فكر وثقافة جديدين، في أعقاب تداعيات الهزائم والنكبات.
لعلها المرة الأولى التي اكتفى فيها الحسن الثاني بالإصغاء إلى ما يقوله آخرون من أبناء شعبه. لم يكونوا قادة دول يخطبون في مؤتمر يفرض الاستماع للآخرين، وإن كانوا خصوما لدودين، ولم يكن عرضا فنيا تلزم فيه تقاليد المشاهدة على الحضور الإصغاء وكتم السعال.
على رغم تضايقه من أصناف النقد التي كان يوجهها مثقفون مغاربة لنظامه، أذعن الحسن الثاني لمخزون قديم، في صورة مجالس العلماء. وبعد أن كان خطا قدما في الإصغاء إلى الفقهاء في الدروس الحسنية الرمضانية التي كانت حدتها تفوق المتوقع في الدعوة إلى تغيير المنكر، أقله باللسان، جرب هذه المرة الانفتاح على ما يقوله من كانوا يوصفون بـ «العلمانيين» أو المثقفين الآخرين الذين لا يحضرون حفلات أعياد الجلوس والشباب.
كانت المناسبة تختلف عن غيرها بأسباب ودوافع الضرورات، فقد عهد الحسن الثاني إلى أقرب مساعديه، من بين الذين كان يقدر مبادرتهم، بتنظيم حلقة مكاشفة مع المثقفين حول أسباب غياب الثقة وأنواع المشاكل والمطبات التي أغرت بعض قادة الجيش بالقيام بمغامرة إطاحة نظامه، على خلفية حادث الصخيرات.
مهمة صعبة لا شك في ذلك، هل ستشمل الدعوة أولئك المثقفين الراديكاليين الذين اكتسحوا الواجهة والمنابر الإعلامية والندوات الفكرية التي كان يتقاطر عليها الآلاف في رحاب الجامعة ومراكز الأحزاب حتى، أم يقتصر على المثقفين الموالين الذين عرفوا كيف يبتلعون ألسنتهم عند الحاجة إليها، كي لا يغضب أصحاب الحال؟
مهما يكن فالمكاشفة مطلوبة والنقاش لا يسمو فكريا إلا بين الاتجاهات المعارضة. وطالما أن الحسن الثاني قال بلسانه إنه يرغب في محاورة المثقفين، فلتكن العينة مختارة على معايير نصف – نصف، لا هي معارضة مائة في المائة، ولا هي موالية إلى درجة الانحناء وتسويغ الوقائع، والأهم أنها المرة الأولى التي سيدخل فيها بعض حملة مشعل التنوير إلى القصر.
على امتداد الأيام التي تلاحقت بعد الأزمة، انفتح القصر أمام كثير من الأفكار والمبادرات، ونقل عن بعض رجال تلك الفترة أن الحسن الثاني طلب إليهم مصارحته بكل النواقص، مهما كانت مستويات ودرجات المتورطين فيها. حتى أن الأبحاث والتحقيقات تخطت كل الحواجز ووصل إلى استنطاق بعض خدم القصر وأعداد من الأشخاص وجهت إليهم تهم باستغلال قربهم إلى مراكز القرار.
ليست كل التهم تؤدي إلى أقفاص المحاكمات، فثمة أعراف تقضي بإنزال عقوبات على كاتمي أسرار المجالس، لا تصل إلى إصدار الأحكام. ويكفي أن تُغلق الأبواب في وجوههم، فذاك منتهى القسوة والعزلة. لولا أن أحد العاملين في إقامة الجنرال محمد المذبوح أخبرني يوما أنه ظل يمارس مهامه في إقامة أخرى، لأنه لم يكن يدري ما يقع في البيت، وكان ينصاع لأمر الجنرال بأن يزوده بما يحتاجه من أكل وشراب عندما يسقط الظلام، ويذهب إلى بيته لينام بعيدا عن جلبة وضوضاء الجلسات الخاصة.
لم يكن غالبية أولئك الذين أقصوا من رجال السياسة أو الجيش، بل مجرد موظفين برتب صغيرة. إلا أن السلطة لا يستخدم نفوذها الكبار دائما، بل إن المحسوبين عليهم، وإن كانوا سائقين أو شواشا، يتفننون أكثر في ذلك الاستغلال، لأنهم يقتدون بما يرون وما يسمعون. وهم في بعض الحالات مثل السجناء يصبحون ضالعين في تكييف أحكام وفصول القوانين بمجرد ذكر أنواع المخالفات أمامهم.
التأمت المصارحة في القصر، جاهر البعض من الحضور بما رآه مسؤوليته في النقد والتنبيه بلغة انطبعت بالوقار والاحترام، وزايد البعض في أن كل البلدان معرضة للوقوع تحت تأثير حوادث سير عارضة. فيما اكتفى آخرون بالوقوف بين منزلتين، لأن الإحساس لم يفارقهم بأن ما كل شيء يقال في جلسات مفتوحة مثل هذه. وخرج الجميع بانطباعات أولية تفيد بأن مجرد التئام ذلك اللقاء يعكس تحولا في المسار.
لم تكن تلك المكاشفة وحيدة. على الطرف الآخر انشغل وزراء ومسؤولون أمنيون وعسكريون بإعداد تقارير عن الأسباب التي أدت إلى وقوع ما حدث. وكان على الراحل الحسن الثاني، بعد أن أصغى وقرأ استبيانات متعددة المشارب والمرجعيات، أن يختار منها الأقرب إلى عقله. وجاء خطابه في تنصيب أول حكومة لما بعد أحداث الصخيرات، يختزل الخطوط العريضة لما كان يعتزم القيام به لإصلاح الأوضاع العامة في البلاد.
فقد كانت تلك أول مكاشفة عبر من خلالها مثقفون إلى القصر، ولم يبق منها إلا الصورة التي ظل يحملها إدريس العبدي كلما أثير موضوع الإصلاحات في المغرب.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى