تعتبر اللغة أداة التواصل الرئيسية بين البشر، وذلك منذ تمثلاتها الأولى في العراق ومصر القديمة. غير أن هذه المهمة التواصلية تفقد وظيفتها حين يتعلق الأمر بلغة التخاطب بين أفراد «أذكى شعب في العالم». يتجاوز دور اللغة في ثقافتنا مرحلة إيصال المعلومة أو إيصال «الهضرة»، لتصبح اللغة إما حظوة اجتماعية، تعبر عن «لاكلاس» والنخوة والانتماء لطبقة «ولاد الفشوش»، أو وصمة عار تعكس الدونية والجهل، والفقر والانتماء لصفوف «ولاد الشعب».
يحاصرنا أخطبوط لغة المستعمر أينما ولينا وجوهنا. «كتسلط علينا الفرنسية» في المصالح الحكومية والأبناك، والمستشفيات والمطارات. تتساءل بخجل، وأنت في قمة ألمك الجسدي والنفسي، عن ترجمة لطلاسم طبيبك المتفرنس. تخشى على «ريالاتك اليتيمة» من النصب والاحتيال لأن الموظفة البنكية «زربات عليك بالفرونسي» ولم تستوعب تماما وضعيتك المالية والقانونية. يحتقرك بائع العطور الفرنسية الفاخرة لتلعثمك أثناء نطق «جون بول غوتييه». وتتأفف منك أمهات «لاميسيون» إذا تجرأت وخاطبت أطفالك «بالدارجة» أثناء نشاط مدرسي أو فسحة في «البارك». تحمل هم نطق «فيلي مينيون» أمام نادل المطعم الفخم في محاولة «تلصاق» يائسة بأهداب الطبقة المخملية.
أمام هذه النخبوية، التي تمثلها اللغة الفرنسية، لا يملك سقراط إلا أن يقول: «تفرنس حتى أراك». يعيش المغاربة شعورا عاما بالانهزام أمام الإرث اللغوي الاستعماري. إرث ثقيل يشكل عائقا حقيقيا أمام التقدم المعرفي في بلادنا. عجز «المنتصر الحقيقي» عن كتابة تاريخ المقاومة في المغرب. اكتفى مجاهدو المغرب غير النافع بشرف طرد الفرنسيس من أرضهم. ليتوارى هؤلاء الأبطال خلف ظلال الفقر والمرض والإهمال، بينما خطف «مناضلو صالونات الخريب» الأضواء والألقاب والأراضي والامتيازات.
يتألق اسم المناضلة «مالكة الفاسي» في سماء مقاومة الاستعمار الفرنسي كونها السيدة الوحيدة التي شاركت في التوقيع على وثيقة المطالبة بالاستقلال. لم يقتصر دور «مالكة» على «السينياتور»، فقد كانت مناضلة نسوية فذة. دعت لتعليم الفتيات وناضلت من أجل حق النساء في التصويت والمشاركة في الحياة السياسية. لا يسعنا، ونحن نتأمل سيرة «لالة مالكة»، سوى التوقف عند مفارقة «فاسية» عجيبة. «العافية كتولد الرماد» مثل شعبي ينطبق على حفيدات «الحاجة مالكة» المتفرنسات قلبا وقالبا. كيف لسيدة قاومت استعمار الأرض والهوية أن لا تتقن «تريكتها» سوى لغة ليوطي؟ أصابتني دهشة شديدة حين علمت صدفة أن نجمات «الإنستغرام الفرنكفوني» هن حفيدات «لالة مالكة»، لأن المتأمل في أسلوب حياة سليلات الأسرة الفاسية المناضلة يعتقد للوهلة الأولى أنهن حفيدات «ماري أنطوانيت» مع فارق «الزعورية».
لا تشكل مساءلة الرواية الرسمية للمقاومة ترفا أو كفرا أو تنكرا لنضالات أحد. «بغينا غير نفهمو كيفاش الناس جراو على فرنسا وبقاو كيعبدو لغتها وثقافتها»؟ كيف لمن حارب المستعمر بالحديد والنار أن يقتات على فتات «لانتريت»؟ بينما يستمتع أحفاد «أهل فاس» برفاهية الإرث الاستعماري ولغته. لا تندرج المساءلة التاريخية لحقيقة ما حدث تحت إطار الشعبوية أو الحقد الطبقي، فالتاريخ ليس مقدسا، ووضع مجرياته تحت مجهر التدقيق حق مشروع لكل المغاربة.
تتخذ مقاومة الاحتلال الثقافي والاستيلاب الهوياتي أشكالا نضالية متعددة، من أبرزها الانسلاخ عن لغة المستعمر ولفظ خردته الفكرية والاقتصادية والثقافية. يقود الجيل الجديد من المغاربة ثورة ناعمة ضد «أيتام فرنسا»، ثورة تجسدت في التحول اللغوي المفصلي «لوليدات ألفين» عبر هجرة جماعية نحو فضاء الأنكلوفونية الرحب. تراجع ملحوظ في الإقبال على لغة «الكغواصون» بين صفوف الشباب، مقابل احتفاء مرح بلغة العلم والتكنولوجيا و«نيتفليكس».
شاهدنا جميعا كيف تحدث «إيمانويل ماكرون» بحرقة شديدة عن تهاوي صرح اللغة الفرنسية في المستعمرات السابقة أمام الاجتياح القوي للغة شيكسبير. احتجاج «ماكرون» لا يقل وقاحة عن تشبث مريديه في المغرب بالوقوف حجر عثرة في طريق نهضة معرفية وتكنولوجية شاملة ببلادنا. حان الوقت لقطيعة تامة مع سياسة «فاين وذنك أجحا». كيف لنا أن نلحق بالركب الحضاري المتسارع، في عالم تسوده «Lingua franca» رائدة في مجالات الطب والفضاء والذكاء الاصطناعي، «وحنا رابطين راسنا بجثة متحللة سميتها الفرنسية». هل من العدل أن يظل المغاربة يسترقون السمع إلى لغة المعرفة العالمية عبر «شريجم» الترجمات الفرنسية؟ يقارن بعض «الفهايمية» جدوى تدريس الأمازيغية مقابل التخلي عن الفرنسية مثلا. لهؤلاء نقول «الله يعطينا وجهكم».
كيف يستقيم في عقل ووجدان شريحة مهمة من المغاربة ربط مقارنة خاسرة بين اللغة الأم ولغة المستعمر؟ وهل تجوز أصلا مساءلة سياسة توطيد الأمازيغية في صفوف أبناء الوطن أمام هذا التكالب الخطير على هوية وتاريخ الأمة المغربية؟
إن بوادر التحرر من «التقاف» الحضاري واللغوي الذي ابتلانا به المستعمر أصبحت جلية من خلال الإقبال المتزايد للمغاربة على استهلاك المحتويات الرقمية الناطقة بالإنجليزية. بل تجاوز هذا الاقبال ذلك إلى اتجاه شريحة واسعة من الشباب إلى صناعة محتوى مغربي باللغة الإنجليزية، في سابقة من نوعها تتحدى هيمنة «سليلات القاع والباع» على المشهد اللغوي في بلادنا.
كفى ركوبا على الأزمة المغربية الفرنسية الحالية، لأنه بمجرد أن يذهب ماكرون ويأتي خليفة له، خصوصا إن كان من اليمين الفرنسي ،وتصلح الأمور بين المغرب وفرنسا ، والتي هي في الاصل حيدة، اكبر نتعاون اقتصادي مع المغرب هي فرنسا، ويفضل شركات السيارات الفرنسية ، اغلب المناولين أتوا إلى المغرب، المهم ستعودون.