مال وسياسة وما بينهما
استحسن الوزير الطاهر عفيفي الفكرة القائلة إن لكل مدينة رجالاتها، إن لم يكونوا من الأولياء الصالحين الذين يزور الناس أضرحتهم، كانوا فنانين أو رياضيين أو سياسيين أو مفكرين. ولأنه كان يميل إلى الفكاهة والدعابة، خلص إلى أنه إذا كان لأهل مراكش سبعة رجال، فإن لمدينة الصويرة التي يتحدر منها ثلاثة، بلا أضرحة أو مزارات.
كان يتحدث عن نفسه طبعا، اعتقادا منه أن مهمة رئيس بلدية تسمح له بأن ينقش اسمه على قوائم الكبار، ومن أجل ألا يعيب عليه الآخرون أنانية زائدة، أضاف اسمي النائبين في تلك الفترة، ميلود الشعبي وجوحنا أوحنا. وكان يرى مسؤوليته مثل قاطرة تجر ما بعدها، فقد جذب أوحنا وخاض عنه حملة انتخابية بالوكالة، وجذبه ميلود الشعبي الذي تنافس من أجل الجميع، قبل أن يكون التصويت بالقوائم.
وهكذا اكتشف مترشحون إلى الانتخابات الطريق السيار قبل تجسيمه على الأرض، كونها لا تتيح الضغط على فرامل السرعة فحسب، بل تختزل المسافات نحو البرلمان بلا عناء.. لأن هناك مرشدين سياسيين على وزن المرشدين السياحيين، يتوقفون أمام دكاكين بعينها وزبناء بعينهم.. وتلك مسألة أخرى.
عندما سمع الفنان الطيب الصديقي من يتحدث هكذا عن بعض رجالات مدينته التي سكنت جوارحه، عقب بأن الرجال الثلاثة ماضون، مثل خلق الله الذي يذكره الناس بالأفعال والمكارم. أما رابعهم، وكان يشير إلى نفسه، فإن المآثر قد ترفعه أو تنزله. لم يرد الصديقي أن يستنتج أكثر مما تجود به أحداث ثقافية أو سياسية. وعاب بالنية والقول الصريح بأن أولئك الرجال لم يتركوا لـ«الموغادور» مسرحا في مستوى ما توخاه أورسن ويلز الذي كان صور شريطا سينمائيا بمسرحية «عطيل» للكاتب الإنجليزي ويليام شكسبير أمام حصون الصويرة التي تصد الرياح.
رأيت بأم العين كيف أن الرياح جاءت برجالات فكر وإبداع أنعشوا ذكرى أورسن ويلز، وكانت من بينهم الممثلة الإيطالية جينا لولو بريجيدا. واحتفظ المستشار أندري أزولاي بمشط صغير في جيبه، كان يستعين به لتسوية شعر رأسه، كلما وقف أمام كاميرا تلفزيونية للإدلاء بتصريح عن تلك القلعة التي ستهزم الرياح بالرسم والثقافة وإيقاع مهرجان «كناوة».
ما بالنا والأدب وتراثه، فقد التقى أولئك الرجال الثلاثة في لحظة واحدة على مشارف فترة محددة، وإن اختلفت مناحي تجاربهم في السياسة والحياة. وكان الرابط بينهم أنهم انتسبوا جميعا إلى حزب سياسي واحد، على رغم فوارق الطرق والمسالك والعوالم. ووجدوا أنفسهم يكتسحون الدوائر الانتخابية لمدينة الصويرة وضواحيها للون واحد، برتقالي المنظر. وهكذا تكون الأغلبية وإلا فلا.
قال جوحنا معقبا على سعيه لاستقطاب مزيد من رجال المال والأعمال، إن السياسة لا تنفصل عن المال والاقتصاد، وإن أقوى اللوبيات تتحرك من الخلف لتشكيل برلمانات وحكومات. وظل على سعيه في استمالة هؤلاء. ولما اصطف ميلود الشعبي إلى جانب الحاج لطفي ومحمد أمهال والرحالي وآخرين من رموز القوة المالية في الفترة إياها، كان الهدف يروم إخراج طبعة ثانية من «المغربة» سيطلق عليها شعار «الخوصصة» التي همت تفويت منشآت عامة لفائدة القطاع الخاص.
كان المعطي بوعبيد، زعيم «الاتحاد الدستوري»، نشازا في المنظومة التي كان يعول على أن يمزج فيها بين الرأسمال واليد العاملة. فقد أسعفه قربه إلى «الاتحاد المغربي للشغل» في أن يمسك زمام التجربة التي صبغت في شكل مزيد من المبادرة الحرة. فالدول الراعية لم تعد قادرة على أن تدير الفلاحة والصناعة والتجارة، والإكراهات التي يطرحها صندوق النقد الدولي والبنك العالمي حتمت تقليم أظافر الدولة المهيمنة على كافة القطاعات.
في كثير من المناسبات، كان يبدي تبرمه من تردد رجال الأعمال في مواكبة تحولات المرحلة. وصارحني القول مرة إن أحدهم تبرع لفائدة الحزب بمبلغ لا يزيد عن خمسة آلاف درهم، قال إنه رفضها، وإن المروءة تمنعه من أن يشطب على اسمه من قوائم المنتسبين إلى الحزب. ورأى أن مهمة رجل السياسة أن يقنع رجال الأعمال بأن الدفاع عن مصالحهم يكمن في تثبيت أركان الاستقرار وإشاعة الأمن والثقة في الحاضر والمستقبل.
الطاهر عفيفي ينظر إلى راحتي يده، فيرى الخارطة الحزبية التي أريد لها أن تكون برتقالية، وجوحنا أوحنا الذي أراد تذكير الرأي العام بأن اليهود المتحدرين من أصول مغربية يمكن أن يصبحوا نوابا ووزراء، وميلود الشعبي، رجل الأعمال الذي كان يبحث عن واحة ظلال حزبية، ولا أحد يسأل إن كان هؤلاء الرجال صنعوا صداقة قديمة أو خططوا لرحلة جديدة.. فالأهم أنهم ترشحوا عن حزب واحد وفازوا جميعا. ولم يندم رابعهم الطيب الصديقي، لأنه فكر يوما في إمكان خوض غمار تجربة مماثلة. فقد ترك لشقيقه الأصغر أن ينقش لوحة من خشب العرعار الخاص باسم «الاتحاد الدستوري». فالخشب تجارة مربحة حين تينع الأشجار، وهو حطب للتدفئة حين تيبس عروقها، ثم إنه ثابت بارود حين يتوقف القلب والعقل عن النبض والتفكير.
في الأساطير والوقائع أن من لم يغتن من الخشب التفت إلى الماء. ومن لم يرو ظمأه لجأ إلى الحجر والتراب. وسبحان الله كيف أن الأرض التي تنبت الأشجار والأغراس تتسع لكل من يمشي فوقها. لا فرق بين ثري وفقير، إذ ينادي المنادي: جنازة رجل، لا طبقية فيها ولا امتياز.