ماذا يفعل موشي ديان في مراكش؟
انتبه أحد مرافقي موشي ديان، وزير الدفاع الإسرائيلي الأسبق، إلى أن المارة يلقون نحوه بنظرات استغراب، تخيل للوهلة الأولى أن زيارته إلى المغرب التي ارتدت طابعا سريا، قد تكون انفضحت. وتساءل إن كان الإسرائيليون أرادوا إحراج المغرب بهذه الطريقة، أم أن المغاربة يرغبون في نفض أيديهم إزاء مفاوضات لم تبدأ بعد.
كان ديان أصر على زيارة مراكش، وتحديدا ساحة جامع الفنا، ومنها اتجه نحو الأسواق الشعبية المحاذية، حيث تصطف دكاكين الصناعة التقليدية والتمور والفواكه المجففة، وتنبعث رائحة البخور وسط ازدحام المارة.
قال إن صديقا يهوديا يتحدر من أصول مغربية أوصاه بزيارة مراكش، فيما كان مقررا أن يغادر من المطار إلى المنتجع الشتوي في إيفران مباشرة، لكنه أرضى رغبة صديقه وفضوله معا.
حتمت إجراءات أمنية على المسؤول الإسرائيلي أن يرتدي قبعة تخفي جانبا من خصلات شعره المستعار، فقد أزال العصابة التي تخفي عينه العمياء. وغطى ذقنه بلحية كثيفة، لا تكاد معها ملامحه تظهر بجلاء.
تطلب الإعداد لتلك الزيارة فترة، منذ تبلورت فكرة اللقاء في ذهن الرئيس المصري محمد أنور السادات وألح في إرسال ممثله الشخصي حسن التهامي إلى الرباط، فالرجل عمل أمينا عاما لمنظمة المؤتمر الإسلامي. ولم يكن بعيدا عن ميولات الرئيس المصري، إلى درجة أنه كان يقوم بمهمة إطلاق بالونات الاختبار في الهواء. بعضها يصل إلى أجواء الكيان الإسرائيلي، وبعضها الآخر ينفجر في السماء.
وحكى أحد مرافقي ديان أنه أفصح له بالقول إنه يريد لحية مهذبة تشبه تلك التي تعلو وجه المستشار حسن التهامي. غير أن مقتضيات إخفاء هوية وزير الدفاع الإسرائيلي فرضت استعارة لحية كثيفة. فقد كان أشبه بممثل يعتلي الخشبة لأداء دور سياسي، فيما أن عقله كانت تسكنه هواجس لا علاقة لها بالنزوع إلى إقرار سلام عادل.
قد تكون نجلته يائيل ديان اقتبست من ذكريات الأب مشاهد سينمائية. لذلك فقد أبدعت في تصوير الأوضاع التي يعيشها اليهود القادمون من بعيد، وحولت المجتمع الإسرائيلي الذي يعج بالتناقضات إلى حانة تأوي التائهين والحالمين والمحبطين، حيث يلتقي جرحى الحرب بمعطوبي الدهر، يترعون كؤوس المرارة إزاء حلم مفجع. ولعل أولئك الذين تعودوا أن ينبشوا قبر موشي ديان كلما لاحت ذكريات حرب أكتوبر، هم أشبه بشخصيات شريطها الذي أنجزته بالأبيض والأسود منذ سنوات.
لم يكن ديان أول مسؤول إسرائيلي يزور المغرب. فقد سبقه رئيس المؤتمر اليهودي ناحوم غولدمان، ثم تلاهم بالصوت والصورة إسحاق رابين وشيمون بيريز ورفائيل ادري وغيرهم. لولا أن العاصفة التي أثارتها زيارة بيريز إلى إيفران كانت أقوى في زمانها المتروك لرحمة التاريخ أو قسوته. بيد أنه منذ قدوم موشي ديان مختفيا وراء ملامح اصطناعية. لم يعد المسؤولون الإسرائيليون يبالون بتسرب أنباء زياراتهم. بل إنهم دأبوا على الوقوف وراء تسريبها لأهداف محددة في الزمان والمكان.
لم يكن ديان يضجر من شيء أكثر من سماع الخطاب العربي، فالرجل كان يعرف اللغة العربية، لكنه يتحاشى الحديث بها إلا في حالات نادرة. وفي جولته التي شملت الأسواق الشعبية في مراكش كان يرخي السمع للأغاني التي تصدح باللهجة المغربية التي تعتبر أكثر تمثلا للغة العربية، وإن طبعها سرعة الأداء وهيمنة حروف السكون.
حين سألت النائب اليهودي جوحنا أوحنا مرة بعد عودته من إسرائيل عن أفضل هدية يحملها معه إلى أصدقاء متحدرين من أصول مغربية، أجابني بأنهم أكثر إعجابا بأغاني الملحون. ولعله إلى جانب أعضاء آخرين في الطائفة اليهودية حملوا المزيد من الرسائل المتبادلة، بغاية تكسير الحاجز النفسي. وإن لم يرافقه إلى اليوم إرادة فعلية في بناء أسس التعايش والسلام العادل. فالكيان الإسرائيلي وحده مازال عصيا على أن يكون له حدود مرسومة مع أصحاب الأرض الشرعيين.
هل انتبه المارة في أزقة مراكش إلى أن زائرهم لم يكن سوى وزير الدفاع الإسرائيلي موشي ديان؟ لم يكن الأمر كذلك. فالناس الطيبون هناك تعودوا على حياة الألفة مع السياح من كل الأجناس. لكن موشي ديان كان يثير الاستغراب. والظاهر أن الحرارة المفرطة في تلك الظهيرة، حللت المادة التي ألصقت بها اللحية الاصطناعية على ذقنه، وبدا وجهه غريبا بنصف لحية لاصقة، والنصف الآخر اقتلع من مكانه، دون أن ينتبه إلى ذلك.
سينتبه مرافقه إلى المشهد، ويدلف به إلى زقاق خال عن المارة، هناك أعاد اللحية إلى مكانها، واستمرت الجولة التي انتهت بلقاء غير معلن في منتجع إيفران.