يونس جنوحي
لو أن ما وقع في مرتفع مرشان المطل على البحر المتوسط في مدينة طنجة، حدث في دولة أخرى تُقدر قيمة الآثار، لقامت الدنيا دون أن تقعد.
قبل أسبوعين تعرض قبر روماني للإتلاف في ظروف غامضة، إذ إن تلك القبور الرومانية الواقعة في مرتفع مرشان، أحد أقدم أحياء طنجة التي تخرج منها علماء وأساتذة وأبطال، بقيت لآلاف السنين في الهواء الطلق دون أن يجرؤ أحد على المساس بها..، إلى أن جاء «أحدهم»، قبل أسبوعين تقريبا، وعبث بأحد القبور واختفت الحجارة التي تؤثثه.
هذه القبور نفسها توجد في مناطق أخرى من المغرب، وهي تشبه الصهاريج الصخرية في شكلها، وحظيت باهتمام علماء الآثار حول العالم.
طيلة السنوات الأخيرة، بقيت بعض المواقع الأثرية، في أكثر من مدينة بالمغرب، مجرد مناطق هامشية بعيدة عن الأعين، تمارس فيها ليلا كل أنواع الرذيلة، خصوصا المواقع الأثرية البعيدة عن التجمعات السكانية، قبل أن تتدخل الوزارة الوصية أخيرا لكي تؤهل بعضها وتجعلها مواقع أثرية منظمة، مثل ما حدث مع موقع اللوكوس نواحي العرائش. إذ إن المشردين وجدوا أنفسهم مشردين فعلا بعد انتهاء الترميم، واضطروا إلى مغادرة الصهاريج التي كان يستعملها الرومان منذ آلاف السنين لتصبير السمك وتصديره بحرا نحو روما.
لكن ما وقع في مرشان يبقى شكلا من أشكال إهمال هذه المواقع الأثرية التي كانت تملؤها دائما مياه الأمطار، ويقفز حولها الراغبون في الوصول إلى «حافة» الحي المطل على البحر المتوسط لرؤية السفن وهي تقطع المسافة بين إفريقيا وأوروبا في رحلة أزلية عجيبة لا تتوقف وتجري مع عقارب الساعة.
هناك حيف كبير في موضوع تدبير مآثر مدينة مثل طنجة، إذ إن بعض الدوريات القديمة، مثل مجلة «الطنجيون»، تحدثت عن عمليات نهب منظم للآثار في منطقة مرشان وحفريات منذ ثلاثينيات القرن الماضي، عُثر خلالها على تماثيل الرومان ومقتنيات تعود لعشرات القرون، كلها شُحنت عشوائيا وغادرت المغرب.
وبدل أن تتم اليوم المطالبة باستعادة كل تلك الآثار التي افتخر علماء فرنسيون بالعثور عليها وتحويلها إلى متاحف فرنسا، ها نحن نرى كيف أن الإهمال لا يزال، للأسف، هو العنوان السائد.
ورغم المجهودات الكبيرة في عملية ترميم المدينة العتيقة والحفاظ عليها من الاندثار وإعادة افتتاح متاحف ومواقع تحتفي بالمدينة الدولية ومجدها كالتقاء للحضارات، إلا أن هناك بعض النقط المظلمة التي يكلف إهمالها خسائر فادحة، تماما مثل ما وقع مع القبور الرومانية.
لماذا لم يتم تطويق الموقع، بحكم أنه مرتفع صخري، وتحويله إلى متحف بلافتات تشرح ماذا تعنيه تلك البرك الصخرية التي تتجمع فيها مياه الأمطار وتمتزج بما يلقيه المارة من مخلفات كما لو أنها مطرح للنفايات؟
كان بالإمكان وضع واقيات زجاجية سميكة لحماية العلامات الصخرية، ووضع لافتات بارزة تشرح تاريخها، وتعيين حراس لتنظيم ولوج الزوار إلى الموقع لرؤية الغروب.
يقال أيضا إن مقبرة الكلاب الوحيدة الموجودة في إفريقيا تقع في مدينة طنجة، بالقرب من موقع جبل الكبير الذي سكنه أشهر أدباء ورسامي القرن العشرين من مختلف الجنسيات. كادت هذه المقبرة أن تُخرب وتتحول إلى أرضية لإقامة عمارة سكنية ضخمة لولا أن السلطات تداركت الموضوع وجمدت كل الإجراءات في آخر لحظة.
إن ما يقع في المدن الأثرية المغربية غير مقبول، فما معنى أن تتعرض أسوار مكناس، فاس ومراكش وتارودانت، التي ينظر إليها السياح بإعجاب وحيرة، للتخريب وتعلوها الكتابات بالصباغة القبيحة، كما لو أنها بُنيت بالأمس وليس قبل قرون؟ الرسالة واضحة: هناك سوء تقدير كبير جدا لما يحيط بنا. ففي الوقت الذي تعتبره دول أخرى هوية وموروثا حضاريا، ننظر إليه نحن على أنه مجرد نتوءات صخرية، لا يمانع البعض في أن تزول نهائيا.