يونس جنوحي
بعد أن كرّست عشرين سنة من عمرها للعمل في المغرب، توفيت، نهاية الأسبوع الذي ودعناه، السيدة «إليزابيث كونيهولم». جاءت هذه السيدة أول مرة إلى المغرب سنة 1991، مع زوجها الدبلوماسي الأمريكي «ثور كونيهولم»، للاستقرار في مدينة طنجة بعد أن قضى الزوج مسارا دبلوماسيا حافلا جدا.
وكعادة الأجانب الذين يختارون طنجة للتقاعد النهائي، فإن السيدة إليزابيث انشغلت بالتعرف على المدينة وأزقتها وتاريخها، لكن ما ميزها عن الآخرين أنها انخرطت في مشروع ربما لم يسبقها إليه أحد.
اشتغلت السيدة إليزابيث على إعادة تجديد مقر المفوضية الأمريكية الذي يوجد في قلب المدينة العتيقة، وفتحه للعموم.
هذه المفوضية هي أول وأقدم بناية دبلوماسية مثلت الولايات المتحدة الأمريكية في العالم، ومنذ مطلع ثمانينات القرن الماضي، سُجلت في السجل الوطني للأماكن التاريخية، باعتبارها «المعلم التاريخي الوطني الأمريكي الوحيد خارج الولايات المتحدة».
كيف حصل الأمريكيون على هذه البناية «العجيبة»؟ لقد كانت هدية من السلطان المغربي المولى سليمان للأمريكيين سنة 1821، وبُنيت على الطريقة المغربية بطبيعة الحال، لكنها مصممة من الداخل على الطراز الأمريكي، حتى أن زائرها اليوم يُخيل إليه أنه في قلب منزل أمريكي مملوك لواحدة من العائلات الأرستقراطية في قلب واشنطن.
عندما أغلقت المفوضية لسنوات طويلة، كادت أن تُنسى لولا مجهودات الزوجين «كونيهولم» لإعادة فتحها للعموم. فالسيدة إليزابيث، التي غادرت الدنيا نهاية الأسبوع الذي ودعناه، أشرفت بنفسها على إعادة خياطة الستائر، والبحث عن الأثاث والوسائد واللوحات وكل التفاصيل الصغيرة التي يجدها زوار المتحف اليوم أمامهم، والتي تعكس روح الثقافة الأمريكية التي قطعت المحيط قبل مئتي عام وتستقر في المغرب.
أهم ما في المفوضية هو المتحف. ويعود الفضل للسيدة إليزابيث في إعادة عشرات التحف وآلاف الوثائق واللوحات إلى الحياة.
خلال الحرب العالمية الثانية، كان مقر المفوضية الأمريكية مكتبا لعملاء وكالة الاستخبارات المركزية CIA الذين كانوا يلاحقون العملاء الألمان والأوروبيين المُسجلين في لائحة الخطر. بالإضافة إلى مراقبة أنشطة الإسبان. ونتيجة لهذه الأنشطة، دخلت إلى البناية التاريخية معدات المراقبة والتنصت وأدوات تشفير الرسائل، وأجهزة التسجيل والتنصت، وكلها وقتها كانت أجهزة متطورة للغاية، وتحولت، بعد نهاية الحرب وإغلاق مقر المفوضية، إلى «خردة» من الأغراض كانت لتتعرض للتلف لولا اليد البيضاء للسيدة العجوز «إليزابيث».
عندما كنت تصادف هذه السيدة في «سوق الداخل»، وهي تتأبط القفة التقليدية المغربية، لاقتناء الخضر، لم تكن لتصدق أنها زوجة دبلوماسي أمريكي جال العالم وأن عينها التي تُقلب السلع، هي نفسها العين الثاقبة التي تصمم الأثاث لمقر المفوضية.
سيدات المدينة العتيقة كن يعرفنها جيدا. فهذه السيدة وزوجها كانا وراء إطلاق برنامج محو الأمية للسيدات، وأيضا برنامج دروس الدعم للأطفال. إذ ليس سرا أن أنشطة المفوضية الأمريكية كانت وراء انفتاح آلاف أبناء بسطاء المدينة وفقرائها على العالم منذ تسعينيات القرن الماضي، ومنهم اليوم أطر يجوبون العالم، تعرفوا على اللغة الإنجليزية لأول مرة في مقر المفوضية الأمريكية.
لم يكن يكسر هدوء صباحات الأحد سوى ضجيج الأطفال الذين كانوا يهرعون إلى مقر المفوضية الأمريكية جريا بين الأزقة الضيقة والمنازل المتهالكة، وصولا إلى بوابة المفوضية التي لم تكن تختلف في شيء عن بقية أبواب بيوت سكان المدينة. لكن بمجرد ما أن يتجاوزوا البوابة حتى يجدوا أنفسهم في القارة الأمريكية.
رحيل السيدة إليزابيث لا يجب أن يقتصر على إعلان بسيط باسم إدارة المفوضية. حياة هذه السيدة تستحق فعلا أن تُسجل وتوثق حتى تبقى ذكراها في قلوب كل الذين تعرفوا على العالم من تلك البناية، أو أثرت في حياتهم.