ما فضحته «كورونا»
محمد كريشان
في كارثة «كورونا» العالمية، مناعتك الشخصية شيء ومناعة المجتمع ككل شيء آخر. الأولى صحية بحتة مرتبطة بصلابتك البدنية الموروث منها والمكتسب وبمدى وعيك الطبي، أما الثانية فرؤية متكاملة وسياسة تُرسم وحكومة تتابع وإدارة تنفذ وأناس منضبطون.
أربك هذا الوباء العالمي الجميع حتى رأينا دولا كبرى، مثل الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا تأخذ قراراتها المتعلقة بمجابهة هذا الوضع غير المسبوق على دفعات، في ما يشبه الارتجال ومحاولات التدارك المتلاحقة بعيدا عن أي رؤية استباقية مدروسة.
لم تنج أي دولة، وخاصة في أوربا، من مثل هذا الاضطراب، لكنه في بلادنا العربية كشف أيضا عن عورات مزمنة لم تأت صدمة «كورونا» إلا لتزيدها انكشافا:
أولا: جاء استهتار قطاع واسع بالإجراءات الحكومية التي أعلنتها دول مثل تونس ولبنان والجزائر لمجابهة الفيروس الواسع وسريع الانتشار، ليفضح مسألة على غاية من الخطورة وهي ليست فقط ضعف الوعي العام بهذه المصيبة وكيفية التعامل معها، وإنما عدم احترام القانون والاستخفاف بالمصلحة العامة. لقد رأينا في تونس مثلا تواصل الحفلات الصاخبة في الفنادق، وطوابير طويلة للدخول إلى حدائق عامة.. وفي الأردن يفر أحدهم من الحجر الصحي لأن ظروف الإقامة لم تكن جيدة كما قال، وفي الجزائر لم تتوقف مظاهرات الحراك رغم ضررها الصحي الأكيد بحجة أن «كورونا ولا يحقرونا»، فيما واصل اللبناني نمط حياته العادي رغم كل التحذيرات الحكومية.
وأمام هذا اضطرت حكومات عربية عديدة إلى إعلان أنها لن تتسامح مع ممارسات مستهترة كهذه، فأقرت غرامات مالية مختلفة وتذكير بعقوبة السجن في بعض الحالات، مع تهديد بالقوة العامة لفرض الالتزام بالحجر الصحي.
ثانيا: قضية الشفافية، فقد ظلت دولة كبرى في مصر مثلا في حالة إنكار، ولم تشأ أن تعلن عن أي حالات إصابة على أراضيها، ولولا ضغوط منظمة الصحة العالمية وما كشفته الدول من حالات وافدة من مصر، وما فضحته الصحافة العالمية، لظلت القاهرة على ترديد أنه «كله تمام»، وكأن الإقرار بوجود عدد من الإصابات في أرض الكنانة يتضمن إساءة لها، أو حطا من قيمتها، في وقت لم تتحرج دول كبرى من الاعتراف بما لديها من حالات.
ثالثا: انكشاف المنظومة الصحية المهترئة في أكثر من دولة عربية صرفت المليارات على أمور كثيرة، لم يكن من بينها الصحة أو التعليم. وإذا كانت كفاءة الدول للتعامل مع الوباء تقاس حاليا بالقدرة على الفحص الواسع والسريع، وتجهيز المعازل الطبية وتوفير عدد الأسرّة وغرف العناية الفائقة، فإن دول الخليج العربية أثبتت أفضلية عن غيرها في هذا المجال، نظرا للوفرة المالية التي وظفت في السنوات الماضية في بناء عدد كبير من المستشفيات العامة والخاصة، وجلب أفضل المعدات والكوادر الطبية. لقد كان من المحزن مثلا أن يكتب بعض السودانيين ساخطا ومتألما أن بلدهم «موبوء بالملاريا والتيفويد والكلازار والبلهارسيا والكبد الوبائي وغيرها، لا تشكل فيه الإصابة بهذا الفيروس أي إضافة ذات قيمة»!! كما أنه من المؤسف أنه في عدد من الدول العربية لم يبادر القطاع الخاص الطبي إلى الانخراط في مجهود الدولة العام للتصدي، مفضلا مصالحه التجارية الأنانية على المصلحة الوطنية العليا، رغم كل ما جناه من قبل من أرباح.
رابعا: في أغلب سلسلة الإجراءات المتخذة في أغلب الدول العربية لم نلحظ، ربما ما عدا قطر، وجود بُعد اقتصادي ضمن الحزمة المعلنة، لأنه عندما تقرر غلق مطاعم ومقاهي وإلغاء تظاهرات، وغير ذلك، هناك بالتأكيد كلفة مالية معينة بسبب الخسائر المنجرة عن ذلك، والتي تستوجب تعويضات معينة، أو على الأقل تسهيلات وإعفاءات معينة كتأخير سداد القروض للمتضررين وغير ذلك لأن ليس للقطاع الخاص، سيما أصحاب الأعمال الصغيرة والمتوسطة، قدرة على الصمود والتحمل لفترة لا يعلم أحد مداها.