مؤامرات بومدين بعيون «CIA»
الجزائر وإيران.. هل يبدأ تبون ما فشل فيه بوتفليقة؟
«زيارة الرئيس الإيراني إلى الجزائر تجعلنا نستعيد تاريخا كاملا من وجود إيران في منتصف الطريق بين المغرب والجزائر.
وكالات الأنباء تتحدث عن توقيع 6 اتفاقيات بين البلدين.
لكن الحقيقة أن هذه ليست المرة الأولى التي يجلس فيها الإيرانيون مع الجزائريين إلى طاولة واحدة، وتُنشر أخبار عن اتفاقيات لم يتحقق منها أي شيء، باستثناء الاجتماع على معاداة المغرب.
عندما يتعلق الأمر بالرباط، فإن كل ما تتوفر عليه طهران، صور قاتمة تعود إلى أيام الشاه، قبل الثورة الإسلامية. أما العلاقات الجزائرية الإيرانية فلم تكن موجودة لا سياسيا ولا اقتصاديا، إلا عندما اجتمعت مصالح البلدين على معاداة الوحدة الترابية للمغرب».
يونس جنوحي
الـ«CIA» لاحقت في الجزائر مطلوبين خططوا لعمليات في إيران
في سنة 1971، كان عملاء الاستخبارات المركزية الأمريكية في فرنسا قد لاحظوا حركة غير عادية في سفارة الجزائر في باريس، فقد كانت هذه السفارة تستقبل بعض الأشخاص، من جنسيات عربية وأخرى من أمريكا اللاتينية، معروفين بأنشطتهم الثورية ومعاداة سياسة الولايات المتحدة الأمريكية.
هؤلاء النشطاء كانوا يحظون بمعاملة تفضيلية من طرف السفارة الجزائرية التي تدفع مقابل مكوثهم في فنادق فخمة، وتوفر لهم مصروف الجيب للتحرك في باريس وبعض المدن الأوروبية، بما في ذلك تكاليف تذاكر الطيران.
عملاء «CIA» انتبهوا إلى أن الجزائر تُجند هؤلاء النشطاء لخدمة مصالحها والحصول منهم على معلومات بشأن معارضين جزائريين في بعض الدول الأوروبية، وشخصيات من جنسيات أخرى تهتم بهم الجزائر.
في ذلك الوقت كانت إيران قِبلة لشخصيات عالمية تحل في ضيافة شاه إيران الذي حصد شهرة واسعة، وتكتب عنه الصحافة الدولية باستمرار، وتتحدث عن ثروته الخيالية ومستوى البذخ الكبير الذي يعيش فيه، ومدى تأثير بلاده في القرار الدولي والسياسة في الشرق الأوسط.
أحد ضباط الاستخبارات المركزية الأمريكية اسمه «ويليام بلوم»، وقد كان في بداية السبعينيات مكلفا بملف الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، وتتبع تحركات هؤلاء العملاء ومدى تأثيرهم في الشأن السياسي والأمني في المنطقة.
هذا الضابط الأمريكي الخبير في الشأن العربي، كتب في مذكراته التي اعتمد فيها على أرشيف سنوات كاملة من تقارير استخبارات بلاده، وذكر بعض الإشارات إلى تورط الجزائر في علاقة مع شخصيات خططت لتنفيذ عمليات تضر بالأمن القومي لإيران، بسبب قربها من الولايات المتحدة الأمريكية.
لقد كان الرئيس الجزائري في تلك السنوات، هواري بومدين، منزعجا من التقارب الكبير بين الملك الراحل الحسن الثاني وشاه إيران، ولم يكن يستسيغ أن يكون المغرب -عدوه التقليدي- على وفاق مع واحدة من كبريات الدول المؤثرة في القرار السياسي في الشرق الأوسط، في حين أن تحالفات الجزائر كانت وقتها محدودة للغاية.
هواري بومدين لم يكن يحظى بأي اهتمام في إيران، لكن بلاده احتفظت بسفارتها هناك، وكانت طهران مسرحا لمحاولات السفارة الجزائرية التجسس على نظيرتها المغربية. فقد كان يهم بومدين أن يعرف الخطوات المستقبلية لعلاقة المغرب وإيران، خصوصا وأن الشاه كان في مناسبات كثيرة يوافق الملك الراحل الحسن الثاني في قراراته، عندما يتعلق الأمر بقمم الدول الإسلامية.
وقد ورد في تقارير «CIA» أن الملك الراحل الحسن الثاني جنّب الدول العربية والإسلامية محطات توتر كبيرة، بفضل صداقته مع الشاه الذي لم يكن يرفض مقترحا للملك الحسن الثاني. وذكرت هذه التقارير التي تعود إلى سنة 1974، أن مبعوث الملك الحسن الثاني إلى شاه إيران جنب الدول العربية مشاكل لا حصر لها مع إيران، سيما عندما تدهورت العلاقات بين المملكة العربية السعودية وطهران، ولولا تدخل الملك الراحل الحسن الثاني، لفشلت مساعي الدول العربية لعقد قمة طارئة كان موضوعها تخصيص دعم هام من النفط، استفادت منه الدول التي لم تكن مُصدرة له في عز وصول أسعاره في السوق الدولية إلى مستويات غير مسبوقة، بسبب الصراع العربي الإسرائيلي.
ماذا يُريد الإيرانيون من الجزائر؟
في الوقت الراهن، يقتصر ظهور إيران في التقارير الدولية، عندما يتعلق الأمر بالجزائر، على توصل «البوليساريو» بطائرات درون إيرانية الصنع. وهذه التقارير، التي تصدر من جهات خارجية، تؤكد أن الطائرات المُسيرة الإيرانية وصلت إلى البوليساريو القابعة في تندوف عن طريق الجزائر، وأنه لا توجد أي طريقة أخرى لكي تتوصل بها إلا عبر الجزائر.
هذا الاستفزاز الواضح للمغرب، من خلال تمويل حركة انفصالية لا يعترف بها أحد – بما في ذلك إيران- كان موضوعا لتقارير أخرى كشفت أن إيران زودت الجزائريين بطائرات مطورة محليا، كانت الولايات المتحدة الأمريكية قد نبهت في وقت سابق إلى أن اشتغال إيران على تطويرها يشكل تهديدا أمنيا في منطقة الشرق الأوسط.
في الوقت الذي تظهر فيه العلاقات الجزائرية الإيرانية على أنها روابط صداقة دبلوماسية، يتضح أن الأمر لا يعدو أن يكون تقاربا لكي تضع إيران قدما في منطقة شمال إفريقيا وتمويل الانقسام لكي تضمن لها قدما في القارة، في إطار السباق بين دول آسيا الكبرى على حصد تحالفات في المنطقة. وهو ما أشارت إليه تقارير دولية كثيرة رصدت أنشطة تمويل لمشاريع في إفريقيا قادتها كل من الصين والهند، في سباق محموم، لا حظ تقريبا لإيران في دخوله.
وهكذا اختار الإيرانيون تمويل «البوليساريو» بهذه الطائرات المسيرة التي طوروها محليا، وانتبه خبراء أمنيون إلى وجودها وتناولوها في تقاريرهم منذ سنة 2020.
كانت هناك تخوفات من أن يتم استعمال هذه الطائرات المُسيرة في عمليات مشبوهة، خصوصا مع صدور التقارير التي فضحت وجود جماعات إرهابية تتحرك في وسط إفريقيا وتهرب المقاتلين صوب سوريا، وهو ما تناولته تقارير منظمات أوروبية بالتفصيل.
الصورة التي تسعى الجزائر إلى ترويجها بخصوص العلاقات مع إيران، تتجه نحو جعل العلاقة تبدو تعاونا اقتصاديا، لكن التقارير «على الأرض» لا ترصد نهائيا أي تعاون اقتصادي حقيقي بين البلدين، رغم أن أول اتصال بين الجزائر وإيران بهذا الخصوص كان سنة 2003، أي منذ عهد بوتفليقة، ولم يتحقق منه أي شيء إلى اليوم!
بن بلة عانى مع بومدين منذ أيام الشاه
الصحافيون الجزائريون الذين عاشوا فترة حكم أحمد بن بلة -أول رئيس فعلي مُنتخب في تاريخ الجزائر المستقلة- رغم قِصرها، يتذكرون كيف أن هواري بومدين حاول أن يخطف منه الأضواء في عدد من المناسبات.
ولعل أبرز مثال هنا، ظهر خلال اجتماع ودي عُقد في القاهرة في النصف الأول من ستينيات القرن الماضي، على هامش القمة العربية التي استضافتها العاصمة المصرية. وكان الهدف منه، حسب الصحافي الجزائري فريد عليلات: «تقريب وجهات النظر بين البلدين».
انتهت أشغال الدورة، وانتهى الرؤساء من الأحاديث الودية ليصعد كل منهم إلى الجناح المخصص له في فنادق القاهرة وإقاماتها الفاخرة. لكن الرئيس جمال عبد الناصر، عقب حرب الرمال والتوتر الكبير في العلاقات بين المغرب والجزائر، اقترح عقد اجتماع ثلاثي، لتلطيف الأجواء بين البلدين، بتحكيم مصري.
وبينما كان الملك الحسن الثاني وأحمد بن بلة، مرفوقين بجمال عبد الناصر، ينوون ثلاثتهم دخول الشقة في الجناح المخصص للرئيس أحمد بن بلة، فإذا بهواري بومدين يلتحق بالثلاثي الرئاسي، محاولا دخول الشقة المخصصة لأحمد بن بلة. وهنا تدخل بن بلة، حسب ما رواه فريد عليلات، ليقول لبومدين على مرأى ومسمع من الملك الراحل الحسن الثاني: «هذه شقتي وليس لك الحق في أن تدخل إليها». وهو ما عكس وقتها وجود خصام كبير بين الرجلين، وصل حد تفجيره أمام الملك الحسن الثاني وجمال عبد الناصر.
إيران كانت بطبيعة الحال حاضرة في الإعدادات للقمم الإسلامية، خصوصا وأن الملك الراحل الحسن الثاني كان معروفا بصداقته الوطيدة مع شاه إيران، وكان يتولى في كثير من المناسبات، مهمة فتح باب الاتصال بالشاه كلما تعلق الأمر بالإعداد لقمة إسلامية، سيما خلال أزمات الصراع العربي الإسرائيلي منذ ذلك التاريخ. والأمريكيون أنفسهم كانوا يعلمون أن بومدين لم يكن يحب شاه إيران، ولم يكن يتفق مع التقارب الكبير بين أحمد بن بلة، والملك الراحل الحسن الثاني.
وليس الصحافي الجزائري «عليلات»، وحده من وثق لهذا التوتر، بل إن وكالة الاستخبارات الأمريكية «CIA» هي الأخرى وثقت لهذا التوتر، وتنبأ موظفوها في قسم شمال إفريقيا، بحتمية وقوع مواجهة شرسة بين الرئيس بن بلة ووزير الدفاع الجزائري هواري بومدين. جاء في وثيقة من هذه الوثائق التي خصصتها وكالة الاستخبارات المركزية للوضع في الجزائر: «هناك أنباء عن توتر كبير عقب أشغال القمة العربية في القاهرة. حاول الرئيس جمال عبد الناصر ترتيب لقاء ودي بشكل غير رسمي في الفندق الذي كان ينزل به أحمد بن بلة. وقد لاحظ الحاضرون أن أحمد بن بلة كان ودودا جدا مع الملك الحسن الثاني، وتبادل الاثنان كلمات الترحيب والتهنئة، قبل أن يطلب منهما جمال عبد الناصر مرافقته بعيدا عن بقية أعضاء الوفد، لكي يعقدوا اجتماعا مغلقا لحل الأزمة بين البلدين.
وهناك أراد هواري بومدين الالتحاق بالزعماء، ويدخل معهم الجناح المخصص لذلك اللقاء المغلق، لكن رئيسه منعه من الدخول.
حسب مقربين من هواري بومدين، فإن الأخير اعتبر الأمر إهانة من رئيسه المباشر. وتلطيف الأجواء بين المغرب والجزائر قد يهدد مصالحه العسكرية».
انتهت هذه الفقرة من وثيقة مطولة تتناول تشريحا للعلاقة المغربية والجزائرية، وتعرض معطيات باتت اليوم معروفة.
ومن أبرز ما تناوله الأمريكيون، التقارب بين المغرب وإيران في عهد الشاه خلال ستينيات القرن الماضي، والصداقة المتينة جدا التي كانت تربطهما. في وقت كان هواري بومدين مُعجبا بالنماذج العسكرية في كل من العراق وسوريا، ولم تكن لديه مساع لعقد صداقات مع الشاه، خصوصا وأن هذا الأخير خلال فترة حكمه كان صديقا حميما للدول الغربية، بينما كان بومدين يميل بوضوح كبير نحو المعسكر الشرقي ويحرص على أن يوطد علاقاته مع الاتحاد السوفياتي. وهكذا، فمنذ وصول بومدين إلى السلطة، وإطاحته بالرئيس الشرعي للبلاد، أحمد بن بلة، وإيداعه السجن على مرأى ومسمع من العالم، فإنه قد قطع حبل الود الذي تكون بين بن بلة والشاه، ومال بالجزائر نحو دول الاتحاد السوفياتي والدول العربية الاشتراكية، ولم يعد الدفء بين الجزائر وطهران، إلا بعد الثورة الإسلامية التي لم يشهد بومدين أقوى أحداثها. فهذه الثورة اندلعت في يناير 1978، واستمرت حتى فبراير 1979. بينما بومدين توفي في السابع والعشرين من دجنبر من سنة 1978.
هل كان فعلا بومدين صديقا لإيران؟
في أيام هواري بومدين، خصوصا مع بداية السبعينيات، توصلت الاستخبارات الفرنسية بمعلومات حساسة للغاية، تتعلق بعلاقة الرئيس الجزائري مع تنظيم «إرهابي» نفذ عملية إرهابية في قلب فرنسا وأثارت الرعب في قلوب الفرنسيين، وتوصل الفرنسيون بصور لهذا الإرهابي الذي كان اسمه «كارلوس» وينحدر من أمريكا اللاتينية، وهو يحظى باستقبال كبار الشخصيات في مطار الجزائر، وكان في استقباله عبد العزيز بوتفليقة الذي كان وقتها وزيرا لخارجية بلاده!
سبق في «الأخبار» أن أعددنا حلقات مطولة عن شخصية «كارلوس» وتتبعنا خيوط تحركاته، سيما وأنه عندما اعتقل وأودع السجن في فرنسا خرج في حوارات صحافية، قبل خمس عشرة سنة تقريبا، يعترف فيها بأنه نفذ عددا من محاولات الاغتيال مستهدفا شخصيات سياسية من مختلف الجنسيات – بينهم مغاربة- بأمر من هواري بومدين.
بخصوص العملية الإرهابية التي كان كارلوس وراءها في فرنسا، فتفاصيلها احتُفظ بها كالتالي: دروك ستور في باريس. الزمان 15 شتنبر 1974. كانت شابة بعمر الـ17 ربيعا، تتمشى مع والديها. أسرة سعيدة فوق الرصيف، حيث يتقاطع المشاة مع الجالسين فوق كراسي المقاهي التي تؤثث المشهد. إلى أن ظهر «رجل مجهول» وألقى قنبلة يدوية على مجموعة من الجالسين. سقط قتلى على الفور، بينهم والدا الشابة التي لم يكن اسمها سوى «إيزابيل كرانبيغ» التي سوف يعرفها الفرنسيون لاحقا سنة 2017 عندما تقدمت في قضيتها ضد «كارلوس» الذي أثبتت التحقيقات، وباعترافاته، أنه وراء العملية.
اتضح لاحقا أن طهران كانت في قلب اهتمامات «كارلوس» الذي كان يشتغل بطريقة العصابات، وأن الخطوط الجوية الإيرانية كانت هي الأخرى مستهدفة من طرف كارلوس ورجاله، وكان كلما اقتربت الكماشة من أن تضيق عليه خلال محاولات الشرطة الدولية ملاحقته عبر عواصم العالم، إلا ولجأ إلى صديقه هواري بومدين. هذا الأخير لجأ إلى خدماته سنة 1977، لكي ينفذ عملية إرهابية في قلب المغرب، كان الهدف منها محاولة اغتيال الملك الراحل الحسن الثاني، وكارلوس، القابع في سجن بفرنسا اليوم، اعترف بتفاصيل هذه العملية للصحافة الفرنسية، وأعطى تفاصيل المخطط وحتى أسماء المسؤولين الأمنيين الجزائريين الذين نسق معهم لتنفيذها.
استُهدفت طائرة الخطوط الإيرانية في مطار روما الإيطالية سنة 1973، وكانت أصابع الاتهام تشير إلى نفس الخلايا الإرهابية التي كان «كارلوس» يُدير خيوطها، وازداد اليقين حول علاقة هواري بومدين بالأمر، خصوصا وأن الأخبار التي جاءت من روما تؤكد إصابة وزراء مغاربة في الانفجار الذي استهدف الطائرة.
كل هذه المعطيات تؤكد بما لا يدع مجالا للشك أن الجزائر في عهد هواري بومدين لم تكن تربطها نهائيا أي صداقة مع إيران. وحتى خلال السنوات الأولى التي تلت الثورة الإسلامية، لم يُسجل أي تقارب بين الجزائر وإيران، سيما وأن الجزائر وقتها قد دخلت في متاهة بعد وفاة بومدين، العقل المدبر للجزائر التي يحكمها الجيش، وغاصت البلاد في أزمة داخلية، في وقت كانت فيه إيران تشهد تحولا جذريا على جميع المستويات لتنزيل مبادئ الثورة الإسلامية، والقطع نهائيا مع عهد الشاه.
بوتفليقة وطهران.. علاقة يسود فيها «الزهايمر»
آخر القصاصات التي نشرتها وكالات الأنباء الدولية والتي يجتمع فيها اسم عبد العزيز بوتفليقة مع إيران، كانت في فبراير 2018، عندما هنأ الرئيس عبد العزيز بوتفليقة إيران بمناسبة الذكرى التاسعة والثلاثين لقيام الثورة الإسلامية في البلاد.
لكن قبل هذه القصاصة بعشر سنوات، وبالضبط في فبراير 2008، كان عبد العزيز بوتفليقة في زيارة رسمية إلى إيران، وجلس في طهران جنبا إلى جنب مع وزير الخارجية الإيراني، لمناقشة مستقبل التعاون الاقتصادي بين البلدين.
توقف بوتفليقة في إيران، في ذكرى الثورة الإسلامية التي جاءت بالخميني إلى السلطة، كانت له دلالات توحي برغبة الجزائر في تدشين علاقات اقتصادية مع إيران، في نفس الذكرى التي قطع فيها المغرب كليا علاقته مع طهران بعد سقوط الشاه، الحليف القديم للملك الراحل الحسن الثاني.
بوتفليقة كان في طريق عودته من الصين بعد أن شارك وقتها في افتتاح الألعاب الأولمبية، وكان يرافقه، حسب أرشيف وكالات الأنباء التي سجلت الخبر، خمسة وزراء بينهم وزير الطاقة والمناجم الجزائري شكيب خليل، الذي ترأس لاحقا منظمة الدول المصدرة للنفط المعروفة اختصارا بـ«أوبك».
التقى بوتفليقة في زيارته تلك، رئيس إيران أحمدي نجاد، وآية الله علي خامنئي. وكانت تلك زيارته الثانية إلى البلاد، بعد أن زارها سابقا سنة 2003.
أما التهنئة الرسمية التي صدرت باسم بوتفليقة سنة 2018، عشر سنوات بعد آخر زيارة له إلى طهران، فقد كُتبت باسم بوتفليقة، بعد أن أصبح الرجل عاجزا تماما ويترأس البلاد صوريا فقط.
لماذا تأخر بوتفليقة في فتح الاتصال مع إيران، رغم أنه وصل إلى الحكم سنة 1999، وكان وزيرا لخارجية بلاده منذ 1963؟ أي قبل الثورة الإسلامية بسنوات طويلة؟
الجواب أن بوتفليقة عندما جرب اليُتم السياسي بعد وفاة بومدين في دجنبر 1978، اضطر إلى مغادرة الجزائر نحو عواصم عربية، مستفيدا من اللجوء السياسي بعد أن صار وجوده في بلاده غير مرغوبا فيه نهائيا. ولم تكن لديه أي صفة دبلوماسية ولا سياسية لزيارة إيران، في عهد الثورة الإسلامية، زيارة رسمية، خصوصا وأن اسمه كان يحمل طابع نظام هواري بومدين الذي لم يكن يجمعه بإيران أي تقارب سياسي منذ عهد الشاه.
وهكذا فإن مواقف بوتفليقة مع إيران منذ أن كان وزيرا لخارجية بلاده وتحركاته، خصوصا سنة 1966، التي كانت تميل إلى التحالف مع الاتحاد السوفياتي، كانت كلها معادية لإيران. لكن الرجل أصيب مبكرا بالزهايمر السياسي عندما زار البلاد أول مرة سنة 2003، لتعزيز العلاقات في وقت كانت فيه العلاقات المغربية الإيرانية مجمدة منذ قيام الثورة والإطاحة بالشاه، متناسيا الماضي المحرج للنظام الجزائري وهو يمول عمليات مسلحة استهدفت إيران في أكثر من مناسبة خلال عهد الشاه.
حقيقة تاريخية مُحرجة: الجزائر لم تدعم إيران نهائيا
عندما كانت إيران في مقدمة دول العالم الليبرالي وصديقة حميمة للولايات المتحدة، كان المغرب على رأس الدول العربية والإسلامية التي تربطها مع طهران علاقات متميزة جدا. وبفضل الصداقة بين الشاه والملك الراحل الحسن الثاني، انخرطت إيران في اجتماعات قمم الدول الإسلامية ولم تعارض أغلب القرارات والتوصيات التي انتهت بها أشغال تلك القمم.
وبعد قيام الثورة الإسلامية سنة 1979، وتحول مواقف إيران ودخولها في حرب دموية مع العراق هيمنت على ملامح أحداث ثمانينيات القرن الماضي، كان المغرب في مقدمة الدول التي قطعت علاقتها رسميا مع إيران، بل وصرح الملك الراحل الحسن الثاني في خطاباته رسميا بقطع العلاقات مع إيران.
وقتها كانت الجزائر تمارس سياسة «النعامة»، وهو توصيف ينطبق تماما على الموقف الجزائري. ففي فترة حكم الشاه، لم يكن هناك تقارب بين الجزائر وإيران، وبعد قيام الثورة الإسلامية بقيت الجزائر صامتة لسنوات، قبل أن تبدأ مبادرات التقارب بين البلدين.
هناك حقائق تاريخية تُزعج الجزائر عندما يتعلق الأمر بالمحطات الكبرة في تاريخ إيران. إذ إن الجزائر لم تحظ منها بأي نصيب.
بينما عندما يتعلق الأمر بالمغرب، فقد كانت الرباط في قلب اهتمامات الإيرانيين. ويكفي هنا أن نعرف أن الشاه سمع بخبر سقوط نظامه وهو في المغرب، وتحدثت زوجته «فرح ديبا بهلوي» عن دعم دول عربية لزوجها، ودخول أخرى في عملية تفاوض خلال أزمة وجود الشاه خارج بلاده بعد قيام الثورة الإسلامية، وذكرت مواقف دول عربية كثيرة، لم تذكر الجزائر بينها نهائيا. ويكفي هنا أن نورد هذا المقطع من مذكراتها، والذي يُلخص كل شيء:
«في ذلك اليوم 11 فبراير 1979، استمع الشاه وجميع الإيرانيين الذين برفقتنا إلى إذاعة طهران ونحن في فيلا مراكش، وبينما كنت أعبر القاعة سمعت: انتصرت الثورة، وانهار معقل الديكتاتورية. وظننت لثوان أننا انتصرنا. فبالنسبة إلي كنا الأخيار، وعم بالتأكيد معقل الفزع. ولسوء الحظ كانوا هم من فازوا للتو، فقد أطاحوا بآخر حكومة عينها زوجي.
ومثّل وصول الأولاد إلى المغرب قبيل عامنا الإيراني الجديد فرحة لنا غير متوقعة، وكان ركبنا قد تأخر في الذهاب إلى مطار مراكش، لذلك التقينا بالأولاد في منتصف الطريق إلى هناك. وتوقفت جميع السيارات، وارتمى كل منا بين أذرع الآخرين في وسط الطريق. ولم أكن قبّلت الصغيرين ليلى وعلي رضا منذ تركا «طهران» مع والدتي قبل شهرين، وكانت الفترة أطول بالنسبة لـ«رضا» و«فرح ناز».
وتركنا قصر مراكش مباشرة إلى قصر رائع في الرباط، وضعه الحسن الثاني تحت تصرفنا. وكان لهذه الأيام القليلة من الحياة العائلية السعيدة كفاصل للراحة في تلك الفترة، التي صار فيها الخطر أكثر سوءا وأكثر تكرارا أثر غير عادي على معنويات الجميع. وانبسطت ملامح الملك، وسمعته يضحك مرة أخرى، بل إنه لعب مع ليلى في الحديقة. واحتفلنا بعيد ميلاد فرح ناز السادس عشر، والسنة الجديدة في نفس الوقت. وانضم إلينا أبناء الملك الحسن الثاني، وعندما عرض لنا شقيقه فيلم «المغامرات المجنونة للحاخام يعقوب»، بطولة «لويس دي فينيس» في إحدى الأمسيات، سعدت لسماع زوجي ينفجر بالضحك مرة أخرى، وهو ما لم يفعله لأكثر من عام».