ليلة رمضانية غيرت مجرى التحالفات الحزبية
ليلة رمضانية ليست كغيرها. وكما ارتبط الشهر الفضيل بمسلسلات فضائح ومحاكمات، أعانت الصائمين على تزجية الوقت بين شعائر الإيمان ورصد مستجدات الأحداث.. لاحت في الأفق بوادر أزمة حكومية، على خلفية تشريعيات العام 1984. فقد هدد حزب الاستقلال بالانسحاب من حكومة الوزير الأول محمد كريم العمراني، احتجاجا على الظروف التي شابت الاقتراع. وكان لابد من أخذ موقفه على محمل الجد، ليس لكونه من الأركان الأساسية لحكومة المرحلة فحسب، ولكن لأن ربط موقفه بالانتخابات يطعن في «مصداقيتها». وإن لم يستسغ مراقبون كيف لحزب بالكاد أكمل عامه الأول أن يحوز على الصدارة، لكنها قاعدة من يكون في المغرب لا يستغرب.
لا مشكل وقتئذ بين وزراء الاستقلال ومايسترو الجهاز التنفيذي. ففي ظرف وجيز تعاقب ثلاثة وزراء أولون، وبقي الحزب في موقعه الحكومي، أمضى حوالي عامين مع أحمد عصمان، وما يقل عن الأربعة مع المعطي بوعبيد، والبقية مع كريم العمراني لم تمر بسلام أقل من الوئام. لم يكن رجل الأعمال مصدر انزعاج الاستقلاليين، بقدر ما كانت خلافاتهم مع وزير الداخلية إدريس البصري محتدمة.
هم يعرفون جيدا أين وكيف تتم الطبخة، وأي التوابل أقرب إلى متناول اليد. لكنهم ما فتئوا يعملون بلمزة: «إياك أعني واسمعي يا جارة». وما لا يقال بفصاحة اللسان يتردد همسا أو غمزا بلغة الإشارات. ومنذ اختار الحسن الثاني وصف المعارضة بأنها موجهة ضد الحكومات وليس النظام، فك عقدة اللسان الذي انطلق ينحى باللوم في أيما اتجاه، من دون أن يقارب خطوط التماس الحمراء، تلك التي بها يعرف الصادق من المخادع.
تؤكد وقائع ثابتة أن معارك الاستقلاليين أيام زمان مع كثير من وزراء الداخلية، منذ أحمد رضا كديرة إلى آخر العنقود قبل نهاية سطوة أم الوزارات، كانت أكثر شراسة. وحتى في السنوات الأولى للاستقلال، قبل وقوع الانفصال الذي تمخض عنه تأسيس الاتحاد الوطني للقوات الشعبية من نخب الجناح اليساري داخل الحزب، لم يكتموا غيظهم مما فعله وزير الداخلية الحسن اليوسي الذي اتهموه بإخراج حزب جديد من معطفه، ما يفسر حزازات مع الحركة الشعبية، كما يخرج الساحر الأرانب وقطع الثوب الملونة من قبعته.. لكن وقع السحر في السياسة ليس مثل الألعاب البهلوانية.
ما بالنا وهذا الانجذاب الفطري إلى رصد معارك الماضي غير البعيد، يزيد في إنكاء جراح التأمت بجهد عسير. غير أن المثير في السياسة أنها حكايات متداخلة، تقود دهاليزها إلى ما هو أقل أو أكثر عتمة، والشاطر من يعرف الطريق إلى المخرج غير المغلق. فقد عرف عن إدريس البصري أنه عندما كان يرغب في ممازحة زواره الكثر إلى طريق زعير، يصف الممر المؤدي إلى بيته بالنخلة التي لا مخرج للزقاق المتفرع عنها. وفاته أن يضع عليها علامة قف، كونه يتشبه بـ«دار القايد» على عادة القرويين، وليس كل من دخلها أو اقترب إليها آمن.
هي ليلة مكاشفة التأمت بعيدا عن الأضواء. في حيثياتها أن الملك الراحل الحسن الثاني أبدى تذمرا من ردود الأفعال التي رافقت مسلسل الانتخابات، ولم يتقبل أن يصدر أكثرها قساوة من حزب مشارك في الحكومة.
كان سعيدا مرتاح البال، لأنه استطاع أن يضم زعامات حزبية، في مقدمتها عبد الرحيم بوعبيد ومحمد بوستة إلى حكومة عهد إليها الإشراف على الانتخابات. وكانت تلك المرة الأولى التي تجمع حكومة انتقالية مكونات الطيف السياسي، باستثناء الزعيم علي يعتة. والتقطتُ عن مسؤول رفيع ما مفاده أن مهمة تلك الحكومة، وإن اقتصرت على الإعداد للاستحقاقات التشريعية، فإنها كانت تروم خلق حالة ألفة بين الأحزاب السياسية القادمة من مختلف المشارب والاتجاهات والرواسب حتى.
لأنه رأى في تزايد حدة الانتقاد ما يفسد الطبخة، فأشار إلى أحد مساعديه بدعوة قياديين بارزين في الاستقلال إلى لقاء ما بعد الإفطار في القصر الملكي. وكان من عادته أن أكثر الاجتماعات أهمية تنعقد بعد مغيب الشمس، مستلهما في ذلك أجواء الشهر الفضيل التي تذيب الحساسيات وتنمي ملكَة الترفع فوق كثير من الاعتبارات. فما يتعذر جمعه أو مناقشته في مجلس حكومي، في الإمكان الإفصاح عنه في جلسة رمضانية يؤطرها البوح بالمكنون: فكرة أو نقدا أو مكاشفة بما يعتمل في الصدور.
حدثني إدريس البصري عن تلك الليلة قائلا إنه كان في غرفة جانبية رفقة المستشار أحمد رضا كديرة ينتظران، وأدرك كل منهما على طريقته أنه يتعين أن يهيئ ظهره جيدا، لما يكفي من الانتقاد والعتب الغاضب. قال أيضا إنها المرة الأولى التي ألقى فيها الملك الراحل جنبا بالتقارير المرفوعة إليه حول سير ونتائج العملية الانتخابية. واستبدل قراءة مواقف وبيانات الأحزاب بالإصغاء إلى قيادة الاستقلال التي كانت أكثر تذمرا.
في جزئيات أن الحسن الثاني فتح قلبه لقياديي حزب الاستقلال، وطلب إليهم أن يصارحوه بكافة أنواع المؤاخذات التي اعترت العملية الانتخابية التي جاءت على إثر تمديد ولاية البرلمان السابق. كان تجمع الأحرار الذي حاز الغالبية استنفد دوره مرحليا، بسبب خلافات داخلية أدت إلى انشقاق. ورأى مهندسو الخرائط الحزبية أن إكراهات التقويم الهيكلي والاتجاه نحو دعم المبادرة الحرة، تتطلب قيام حزب بديل، تكون له امتدادات في أوساط رجال الأعمال والرأسمال المحلي، إضافة إلى ارتباطه بعلاقات مع النقابات، خصوصا الاتحاد المغربي للشغل، لكن الإخراج لم يكن في مستوى الرهان.
بيد أن الوجه الآخر للعملية لم يتم الإفصاح عنه، وفي أقل تقدير لم تصل أصداء تلك الجلسة إلى خارج السجاد والأرائك والكثير من التمنيات التي همت تهذيب المشهد السياسي. ورافع الاستقلاليون دفاعا عما يرونه تحللا من إرادة الذهاب أبعد في تنقية ظروف الاستشارة الانتخابية. وكان من نتيجة ذلك اللقاء أنه أرجأ اتخاذ قرار الانسحاب من حكومة كريم العمراني إلى وقت لاحق.
شعر حزب الاستقلال أنه دفع ثمن صراع لم يكن طرفا فيه. وبدأت مياه تتدفق تحت جسر الإخوة – الخصوم. وكان أول عمل قام به يتمثل في فتح صفحة جديدة مع الاتحاد الاشتراكي، أسهمت في خلق معادلة نقيضة للواقع السياسي، تطلبت سنوات عديدة لتتبلور في صورة تحالف قديم – جديد. وتنفس الاستقلاليون والاتحاديون الصعداء، لأن المحنة العابرة أعادتهما إلى بيت وفاق تاريخي، سيطبع ما لا يقل عن عقدين من الممارسات الحزبية، قبل أن يظهر لاعبون جدد، في غضون معطيات أخرى.
وبقيت ليلة المكاشفة من بين علامات يتذكرها البعض وينساها البعض، أليست الوقائع السياسية مماثلة للحكايات التي لا تنتهي بمجرد سردها.