شوف تشوف

الرأي

ليبيا وحصاد التهميش والعبث

سامح المحاريق
من العراق إلى اليمن إلى ليبيا، تتبدى مشكلة عميقة تتعلق بالتعقد الذي تتصف به الأوضاع السياسية والميدانية، حيث يمتلك كل طرف فاعل أو محتمل، على الأرض حلفاءه الخارجيين، مع وجود فرصة لتبدلات في المواقع والمواقف. وتكاد ظاهرة اللواء خليفة حفتر في ليبيا تمثل نموذجا صارخا للمواقف المعقدة، فاللواء الذي يتطلع إلى وراثة جماهيرية القذافي، في نسخة جديدة، تحول من إحدى الأدوات لحلفائه، إلى عبء كبير وثقيل. وبعيدا عن قراءة خريطة الصراع في ليبيا، وتشابكها مع الصراع الإقليمي في المنطقة، يمكن قراءة ظاهرة حفتر في ظل السبب الجوهري، الذي أودى بهذه البلدان إلى هذا المصير منذ البداية.
بعيدا عن ليبيا، وفي محافظة تكريت، كانت العلاقات التي تربط مولود مخلص التكريتي بأبناء بلدته في العشرينيات والثلاثينيات من القرن العشرين، دورها الكبير في أن تتحول تكريت إلى مستودع أساسي لتزويد الجيش العراقي الناشئ بالكوادر العسكرية، ومن بينهم أحمد حسن البكر، الذي وصل إلى رئاسة العراق، ومن عباءته كان الوصول السريع والتوسع الكبير في نفوذ صدام حسين، ومع وصول الأخير إلى السلطة توسع دور أبناء تكريت، خاصة الأقارب المباشرين لصدام، في حكم العراق.
مع صدام حسين كان العيش باستقرار يتطلب الانضواء في حزب البعث، أو المحافظة على علاقة حسنة معه، ولكن التقدم في صفوفه والحصول على حصة من كعكة السلطة، كان مرتبطا بالمحافظة على علاقة حسنة مع الكتلة التكريتية من أقارب صدام، وأحكمت هذه المجموعة قبضتها على السلطة لعقود من الزمن، وكانت العقدة التي تتجمع حولها كل خيوط السلطة والسيطرة، ولذلك أدى سقوط صدام إلى انهيار مفاجئ في الدولة العراقية، وتحركت الفئات المستثناة من الحصول على حصة لائقة في الحكم والمكاسب بنفس انتقامي تجاه البعث، والحلقة المرتبطة بصدام حسين وأسرته، ولكن هذه الفئات كانت تفتقد أصلا لبنى تنظيمية داخلية تمكنها من العمل على إدارة البلاد، عدا عن حالة الفراغ الكبيرة والصادمة، التي تبدت بعد ما يسمى اجتثاث البعث من العراق.
لم يكن الأمر مختلفا في اليمن، ولكنه لم يتوسع أو يتخذ شكلا فاقعا، كما العراق، لأسباب موضوعية منها الواقع القبلي، والاتحاد بين الشمال والجنوب، وضرورة المحافظة على شيء من التوازنات، ووراء ذلك كان كثير من اليمنيين يشعرون بالتهميش والاستبعاد، ومن بينهم أتباع الحوثي، الذين لم يكن لهم أن يتحولوا من بؤرة متمردة ساخنة وعصية على الدولة إلى بسط نفوذهم على البلاد، لولا استغلالهم لواقع الغضب، الذي تراكم لدى القبائل وجموع اليمنيين أثناء فترة حكم علي عبد الله صالح، وعند انهيار نظامه توالى سقوط الأشكال المؤسسية غير العميقة في اليمن، ليتكشف واقع الفراغ الذي يسعى الجميع ليطرحوا أنفسهم مرشحين لاحتلاله وبناء نفوذهم، وأمام هذا الإغراء امتدت التحالفات اليمنية إلى الخارج، ولم يعد أحد يمتلك القدرة على طرح الحل اليمني الواقعي والمنصف، الذي يمكن أن تعود الدولة اليمنية للتحلق من حوله، فالدولة لم تكن للجميع، ولا أحد يمتلك خبرة المشاركة في الحقيقة، فكل تاريخ اليمن في حقبة صالح عبارة عن استحواذ، يلحقه قليل من المحاصصة لبعض المقربين.
بالعودة إلى ليبيا، فالأمر لم يكن مختلفا، ولكن منسوب العبث كان يعلو على أي نموذج آخر، والمشكلة في الرهان على اللواء حفتر، هو التصديق بأن الرجل يمتلك خبرة عسكرية، وللأسف فإن الشعب الليبي يمتلك تاريخا عريضا في المقاومة والنضال، ولكن لا يمكن إطلاقا أن نقول بوجود خبرة عسكرية حقيقية بالمعنى المؤسسي، ذلك أن ضابطا في مقتبل العمر مثل القذافي، تمكن أصلا من تحريك الجيش الناشئ للإطاحة بالحكم الملكي، وقرر تجميد اللحظة التاريخية لمصلحته، والعمل على الإبقاء على ليبيا صغيرة لمصلحته الشخصية، فكانت الفوضى تتحكم في جميع أشكال المشهد، وبدلا من بناء جيش حقيقي، كانت الميليشيات التي تخص أبناءه هي قوام العسكرية الليبية، ولذلك لم يجد القذافي في محاولته لإخضاع الثورة سوى المرتزقة الأفارقة.
اللواء حفتر ليس سوى مشروع قذافي جديد، وربما يفضل الليبيون البقاء في الفوضى وعلى ذمة الأمل بأن تتحسن الأوضاع، وعلى ناصية المقاومة مهما بدت مرهقة وصعبة، على الاستسلام لرجل لا يتردد في إرسال أقاربه إلى مفاوضات سياسية رفيعة، تعنى بمستقبل البلاد ككل، وهذه هي المشكلة التي لم يعترف بها حفتر ولم يقدرها جيدا الذين دفعوا بالرهان عليه.
المشكلة أعمق من صراع بين حكومتين أو فريقين يتنازعان على السلطة، ويناوران حول الشرعية، فالقصة في ليبيا هي مختبر حقيقي اليوم لعملية إعادة بناء مجتمع حقيقي، يستطيع أن ينتقل إلى العصر الحديث، بعدما أبقاه القذافي طويلا خارج الواقع والمنطق والتاريخ، وربما على الليبيين أن يتوجهوا اليوم لتحسس الأرض تحتهم، ومحاولة البحث عن مخرج لشعب يستحق الحياة، ويمتلك أسباب التقدم والازدهار، حيث سيظل مشروع حفتر، أو أي جنرال آخر قائما، إذا لم يتم تأسيس وطن للجميع ومن أجل الجميع، وطن يقوم على المشاركة لا الإقصاء، وطن لا تتحكم فيه الثارات والضغائن، وطن يسود فيه القانون ويصبح حديثه الشاغل هو كيف تتحقق العدالة والمساواة والحرية والكرامة، لا كيف يحاول أبناؤه أن يعيشوا بمحاذاة الحائط، هربا من الظلم والقمع والإذلال والتهميش. لا يمتلك حفتر هذه الوعود، وليس معنيا أصلا بتقديمها، ولا أحد ربما إلى اليوم، في ليبيا، أو العراق أو اليمن، أو غيرها، يلتفت إلى الأسس الحقيقية لبناء مستقبل للجميع، فكل طرف يحاول الثأر على طريقته، والحصول على طبق الانتقام، بدون أن يلتفت إلى حقيقة مفادها أن لا شيء يتغير، وأن كل ما يحدث هو التخلص من طاغية والتمهيد لآخر، ولكن بروتس في العادة، لم يكن ليخلف قيصر يوما، فالشاب الطموح في روما كان مجرد أداة قامت بدورها، وتركت الكلمة لمكر التاريخ الذي يحاولون تجميده على طريقة القذافي وبأسلوبه نفسه.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى