هاني مسهور
ماكر هو التاريخ حينما يستدعي ذاكرته بحوادثه وحكاياته، وكأنه ينسج نسجا من الخيوط بين ما مضى وما هو حاضر وما سيأتي.
فعند مئوية معاهدة لوزان تحديدا كان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ضيفا على عواصم العرب من الرياض إلى أبو ظبي، ومختتما جولته بالدوحة، وكأنه يأتي من التاريخ إلى الحاضر، من أنقاض الدولة العثمانية ومن على ضريح أبي الأتراك كمال أتاتورك جاء الحفيد للعرب بدبلوماسية بيرقدار والسيارات التركية، ساعيا للمئوية الثانية لورثة الأتاتوركيين الجدد.
العرب أنفسهم لم يحتفوا بمعاهدة لوزان التي فتحت لهم بعد توقيعها في 1923 أفق التحرر الوطني على بلادهم بعد قرون من الاحتلال، فلم تكن تلكم المعاهدة نهاية للدولة العثمانية فحسب، بمقدار ما كانت تغييرا مفصليا في شكل الشرق، فلقد تصاعدت الروح القومية العربية بعد أن أطلق الشريف بن حسين الطلقة الأولى من بندقيته لتندلع الثورة العربية الكبرى، لتصل إلى بلاد الشام والعراق، فامتدت المقاومات العربية مدفوعة بروح الغضب مما آلت إليه الحرب العالمية الأولى بتقاسم القوى الاستعمارية البريطانية والفرنسية والإيطالية للبلاد العربية باتفاقية سايس بيكو 1916.
قرن كامل تشكلت فيه الدول الوطنية العربية الحديثة بتضحيات جسيمة، كانت قاعدتها الممتدة دائما في الانتماء القومي الذي تجسد كاملا بالسيادة الكاملة على الأرض، والثروة بقيام الضباط الأحرار في مصر بقيادة ثورة 23 يوليوز 1952، لتكون حجر الزاوية الأشد صلابة، ومنه استطاعت حركات التحرر الوطني من أن تقيم دولها وكياناتها السياسية.
علاقة العرب مع تركيا الجمهورية لم تكن ودودة لطبيعة التكوين التاريخي. العراق وسوريا، وهما يمثلان سقف العالم العربي، بقيا في حالة اشتباك دائم، بسبب الحدود ووضع الأرمن والأكراد وقضية لواء الإسكندرونة.
الأتراك أنفسهم دخلوا في عراك داخلي حول تعريفهم لأنفسهم في صراع قومي عثماني، وظلت تركيا تعيش انقلابات عسكرية متوالية مع رغبة جامحة في الانتماء إلى أوروبا بالانضمام إلى الاتحاد، بعد أن شعر الأتراك بأن وجودهم في حلف الناتو لا يلبي رغبات الجمهورية العلمانية. لم تشهد تركيا استقرارا حتى بداية القرن الحادي والعشرين، وتحديدا مع صعود نجم الدين أربكان في 1996 بقيادته لحزب الرفاه بتوجهات إسلامية.
مع أفول أربكان صعد رجب طيب أردوغان زعيما تركيا براغماتيا بخصائص غير مألوفة، فمع استفادته من المسار الاقتصادي لحزب الرفاه والصراع السياسي الحاد بين العسكر والإسلاميين، ظل متكئا على جدار العلمانية، حاملا عصا الدين مقدما خطابات متناقضة، شيء منها للغرب وشيء منها للمسلمين، فلقد ظل قادرا على توجيه خطاباته وسياساته بين المتناقضات، قادرا على القفز بينها بشكل مذهل دائما، حتى أنه، وبعد انتخابات 2014 وفي عمق أزمة الانقلاب الفاشل 2016، وظف خطابه للدولة العثمانية الجديدة، معتبرا أن العام 2023 سيكون موعدا للجمهورية التركية الثانية. وكما وضع أتاتورك بصمته الخالدة على الأولى، فأردوغان سيضع بصمته على الثانية.
بين روسيا والصين والولايات المتحدة، كانت تركيا الأردوغانية حاضرة في موازين القوى الدولية، فهي موجودة بعد سنوات الاضطراب في العالم العربي، فلذلك كان حاضرا في ليبيا وسوريا والعراق.
ولأنه حاول أن يكون لاعبا محوريا، فلقد راهن أردوغان على جواد الاستقطابات التي أعتقد أنها ستأخذ تركيا إلى أبعد من حدود معاهدة لوزان، غير أنه اصطدم بحقائق التاريخ ومنطق الواقع الذي انتهت عليه الحروب العالمية، وبنى القوميون العرب دولا وطنية، كما بنى القوميون الأتراك دولتهم الوطنية على أنقاض العثمانية التي زالت إلى الأبد.
وفي مئوية لوزان الأولى كثير ما يستحق الاحتفاء به عربيا كما تحتفي تركيا بالديمقراطية، فهي نتاج علمانية أفلحت وليتها تتسرب إلى بلاد العرب، أليس التاريخ ماكر في استدارته.
نافذة:
راهن أردوغان على جواد الاستقطابات التي أعتقد أنها ستأخذ تركيا إلى أبعد من حدود معاهدة لوزان غير أنه اصطدم بحقائق التاريخ ومنطق الواقع