لم تقولون ما لا تفعلون ؟
يحلو كثيرا لرئيس الحكومة المعين أن يلعب دور الضحية، ويحلو لحزبه أن يلعب دور الحزب المضطهد الذي يتآمر عليه الجميع.
والحال أن مشكلة عبد الإله بنكيران وحزبه أنهم يعتقدون أن ذاكرة المغاربة قصيرة.
عندما يتحدث بنكيران وحزبه عن مؤامرة 8 أكتوبر، التي يقول إنها حيكت بين لشكر والعماري قبل أن “يخوي” بهما شباط، لعرقلة تعيينه كرئيس حكومة مكلف بتشكيل الحكومة، فإنه ينسى تورطه هو وحزبه في تزكية الإطاحة بالاتحاد الاشتراكي من قيادة حكومة 2002، رغم أنه فاز بالمرتبة الأولى في الانتخابات التشريعية.
ولعل بنكيران نسي أنه بدوره شارك في مؤامرة حيكت خيوطها سنة 2002 في عشاء بمنزل “الزايغ” أحرضان، لإبعاد الاتحادي عبد الرحمان اليوسفي من رئاسة الحكومة والإطاحة بعبد الواحد الراضي، من رئاسة مجلس النواب، وانتخاب عباس الفاسي مكانه، في حين رفض التجمع الوطني للأحرار الانخراط في هذه المؤامرة وبقي إلى جانب الاتحاديين.
ورغم ذلك، ولأنه “داير قزديرة على وجهو”، فقد طالب بنكيران بعد انتخابات 2011، الاتحاد الاشتراكي بمشاركته تشكيل الحكومة، لتسخين “كتيفاتو” بهذا الحزب كما قال بعظمة لسانه.
فدارت الأيام إلى أن أصبح اليوم يرفض دخوله للحكومة بدون تقديم أي مبررات لهذا الرفض، لكن تبين أن بنكيران كان يريد اتحاد اليازغي وأنصار الراحل الزايدي، وليس اتحاد لشكر، وذلك لتشكيل حكومة ضعيفة عدديا لإضعاف وزراء حلفائه، والإبقاء على الاتحاد في المعارضة كعجلة احتياط في حالة وجود احتمال إسقاط الحكومة، أو إجراء تعديل حكومي، “الساعة اللي فراس الجمل فراس الجمالا”.
ودائما في إطار التذكير، لأن ذاكرة بعض السياسيين قصيرة ومثقوبة، وخلال المؤامرة الفاشلة التي شارك فيها إخوان بنكيران للإطاحة بأول حكومة للتناوب، وجه حزب العدالة والتنمية انتقادات قوية لهذه الحكومة، واتهمها بارتكاب الكبائر، ودعا الناخبين إلى تذكر هذه الكبائر وهم يتوجهون إلى صناديق الاقتراع حتى لا يرتكبوا إثم منحهم الفرصة لتكرار كبائرهم مرة أخرى.
وعندما نستعرض “كبائر” اليوسفي، كما قدمها حزب العدالة والتنمية آنذاك، نخلص إلى أن ما ارتكبه اليوسفي وحزبه ليس سوى سيئات أمام كبيرة الكبائر التي ارتكبها بنكيران خلال الخمس سنوات التي قاد فيها الحكومة المنتهية ولايتها.
وعلى رأس الكبائر التي اتهم حزب بنكيران الاتحاديين بارتكابها، استضافة الصهاينة والتغطية على مشاريع الاختراق الصهيوني بالمغرب، وعدم تحريك أي ساكن أمام قيام بعثة تجارية صهيونية بزيارة المغرب في النصف الثاني من شتنبر 2000، ورفض مقترح القانون الذي قدمه فريق العدالة والتنمية إلى مجلس النواب من أجل منع التعامل التجاري استيرادا وتصديرا مع العدو الصهيوني.
ومن يسمع هذه العنتريات يعتقد أن هؤلاء الناس عندما سيصلون إلى الحكومة سيفتحون القدس، لكن عندما وصل الحزب إلى قيادة الحكومة، فتح أبواب مؤتمره الوطني في وجه الصهيوني “عوفير برانشتاين”، وهو الشخص نفسه الذي احتج عليه الحزب لما حضر إلى مؤتمر “أماديوس” بطنجة، كما أن نواب حزب العدالة والتنمية صوتوا ضد مقترح تعديل تقدمت به فرق المعارضة على مدونة الجمارك، يقضي بتجريم التبادل التجاري مع الكيان الإسرائيلي، وتكلف إدريس الأزمي الإدريسي، الوزير المنتدب المكلف بالميزانية، والقيادي بحزب العدالة والتنمية، بإشهار “فيتو” الحكومة لإسقاط التعديل، وكذلك “تجميد” مقترح قانون يقضي بتجريم التطبيع مع إسرائيل دون مناقشته داخل لجنة العدل والتشريع بمجلس النواب.
والمصيبة أن حجم التبادل التجاري مع إسرائيل في عهد حكومة بنكيران، ارتفع بنسبة 216 في المائة، وبلغت قيمة الصادرات المغربية نحو إسرائيل في عهد هذه الحكومة ما قيمته 42 مليون درهم، في الوقت الذي لم يتجاوز مجموع التبادل التجاري بين المغرب وإسرائيل 20 مليون درهم خلال سنة 2006.
وعندما كان حزب العدالة والتنمية في المعارضة، كان يقيم الدنيا ضجيجا مع اقتراب موعد تنظيم مهرجان موازين الذي تحتضنه مدينة الرباط سنويا، وكان ذلك فرصة لكي يخرج صقور الحزب ليعلنوا عن مواقفهم الرافضة للفن “المائع”، واتهام حكومة التناوب بارتكاب “كبيرة” إشاعة الفاحشة، كما أن الحزب هاجم على لسان البرلمانية السابقة والوزير الحالية بسيمة الحقاوي الفنانات المشاركات في المهرجان ووصلت إلى حد وصف إحداهن بـ”العاهرة التي تفسد أخلاق الشباب”، لكن بعدما ذاق قادة الحزب “حلاوة” كراسي الحكومة، وتقلد الحزب لحقيبة وزارة الاتصال، أصبح جوابهم الجاهز لكل من يطالبهم بتوقيف مهرجان موازين هو أن لهذه المهرجانات جمهورها الذي يحترم الحزب ذوقه، كما بلع صقور الحزب ألسنتهم صمتا على كل المظاهر التي كانوا يعارضونها في السابق، وأصبحت حكومة العدالة والتنمية بقدرة قادر لا تمس بالحريات الفردية، ولا تدخل في صراع مع المخمورين ولا مع النساء المتبرجات، ولا تدافع عن تجريم العلاقات الجنسية خارج الزواج بعد واقعة شاطئ المنصورية بين الفقيه بنحماد والفقيهة النجار.
ولعل الجميع يتذكر كيف اتهم بنكيران وحزبه حكومة اليوسفي بارتكاب “كبيرة” إشاعة الخمور، من خلال ارتفاع مداخيل الرسوم المفروضة عليها، وبينما كان حزب العدالة والتنمية في البرلمان ضد بيع الخمور ويطالب بتطبيق القانون في هذا الشأن، كما شن صقور الحزب هجوما على الحكومات السابقة للمطالبة بوقف الترخيص لمحلات الخمور، أصبح بعد وصوله إلى الحكومة يراهن على الضرائب المستخلصة من مداخيل الخمور لسد ثقوب الميزانية، حيث توقعت الحكومة الحالية في مشروع قانون المالية لسنة 2017، أن تجني مداخيل مهمة من الضرائب المفروضة على بيع الخمور والسجائر، وكذلك مداخيل ألعاب القمار والرهان، وحسب المداخيل، من المنتظر أن تدر الخمور والكحول بمختلف أنواعها بالإضافة إلى الجعة ما يقارب 125 مليار سنتيم، ستنضاف إلى المداخيل المتوقعة من الضريبة على التبغ والتي ستصل حسب قانون المالية إلى 916 مليار سنتيم، أما بالنسبة لمداخيل القمار، فيتضمن قانون المالية حساب خاص بنتاج اليانصيب ستجني الحكومة من مداخيله 7 ملايير سنتيم، وحساب آخر يحمل اسم حساب خاص بالاقتطاعات من ألعاب الرهان المتبادل ستصل مداخيله إلى 9 ملايير سنتيم.
ومن “الكبائر” التي ألصقها حزب العدالة والتنمية بحكومة اليوسفي، تعميق أزمة التشغيل والبطالة، لكن بعد مرور خمس سنوات الأخيرة، ارتكب بنكيران “كبائر” مضاعفة، ففي عهد الحكومة الحالية ارتفع معدل البطالة من 8,9% سنة 2011 إلى 9,7% سنة 2015، كما فقد الاقتصاد الوطني 26 ألف منصب شغل سنويا، مقابل إحداث 74 ألف منصب تتسم في غالبيتها بطابعها غير المنظم والهش، وخاصة تلك المحدثة بقطاع “البناء والأشغال العمومية” وقطاع “الخدمات”.
ومن “الكبائر” التي ألصقها حزب العدالة والتنمية، بحكومة اليوسفي ارتفاع المديونية العمومية، وانتقد بشدة فشلها في تخفيض حجم الديون. المصيبة أنه بعد قضاء خمس سنوات فوق مقعد اليوسفي “نجح” بنكيران وحزبه في الرفع من حجم المديونية الخارجية، بعدما تجاوزت الديون كل الخطوط الحمراء المسموح بها، وبلغت قيمة هذه الديون مبلغ 807 مليار درهم خلال السنة الماضية، أي ما يمثل 81,3 بالمائة من الناتج الداخلي الخام.
وكل ما نجح فيه بنكيران هو أنه ساهم في إغراق البلاد في الديون ووضعها رهينة لدى المؤسسات المالية العالمية، فعند تشكيل النسخة الأولى من الحكومة، كانت المديونية لا تتجاوز نسبة 51 في المائة من الناتج الداخلي الخام، كما أن جميع الحكومات السابقة لم تتجاوز نسبة 60 في المائة التي يحددها البرلمان سنويا في قانون المالية، لكن في عهد حكومة بنكيران عرفت المديونية ارتفاعا ملحوظا حيث انتقل من 743 مليار درهم سنة 2014 إلى 807 مليار درهم سنة 2015 أي بزيادة تجاوزت 64 مليار درهم، ويمثل 81,3 بالمائة من الناتج الداخلي الخام، والمثير أن الحكومة لا توظف هذه القروض في الاستثمارات، من أجل زيادة نسبة النمو وانتعاش الدورة الاقتصادية، لكنها تقوم بتوظيف هذه القروض في نفقات التسيير، كما انتقل دين الخزينة من 430 مليار درهم سنة 2011 إلى 629 مليار درهم مع متم سنة 2015، أي بزيادة 200 مليار درهم في ظرف أربع سنوات.
ومن “كبائر” بنكيران، أنه وعد المواطنين في برنامجه الانتخابي، بمواجهة الأزمة الاقتصادية، من خلال الرفع من معدل النمو إلى 7 في المائة، وتقليص عجز الميزانية إلى 3 في المائة، وبعد انتهاء الولاية الحكومية، انقلبت الأرقام، ولم تتجاوز نسبة النمو معدل 2 في المائة.
وقد خاض بنكيران وحزبه حملتهم الانتخابية ببرنامج يتضمن محورا متعلقا بالحكامة والشفافية وإصلاح القضاء ومحاربة الفساد، وهي تقريبا تكرار واستنساخ لنفس الوعود التي قدمها للناخبين في انتخابات 2011، عندما ركب على صهوة شعار “محاربة الفساد والاستبداد”، قبل أن يعوضه بشعار “عفا الله عما سلف”، لكن مع نهاية الولاية الحكومية، رفع بنكيران الراية البيضاء معلنا استسلامه وانهزامه أمام الفساد، دون أن ننسى تورط وزراء وقياديين بالحزب في قضايا تتعلق بالحكامة والتصرف في المال العام مباشرة بعد تحملهم المسؤولية الحكومية أو تسيير المجالس الجهوية والجماعية، عن طريق التلاعب في الصفقات وتفويتها إلى شركات في ملكية قياديين في الحزب وذراعه الدعوية وتبذير المال العام وتعيين المقربين في المناصب العليا.
إنه لمن السهل بالنسبة للسياسي أن ينتقد ويهاجم ويصف خصومه في موقع المسؤولية بالفشل وارتكاب الكبائر، لكن الأصعب هو تجنب الوقوع في نفس الكبائر عندما تنقلب الموازين وتأخذ المعارضة مكان الأغلبية في سدة الحكم.
لقد أعطى بنكيران وحزبه الدليل الواضح على نفاقهم وكذبهم وقلة حيائهم، كما أظهروا للجميع أنهم يدخلون في صف من نزلت فيهم الآية الكريمة “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ، كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ”.
صدق الله العظيم ولعنة الله على المنافقين.