شوف تشوف

الرأي

للمرة الأخيرة.. مات بوتفليقة

يونس جنوحي

مات عبد العزيز بوتفليقة. هذه المرة الخبر حقيقي، وسوف تكون هذه المرة الأخيرة التي يموت فيها حرفيا، بعد أن مات رمزيا أكثر من مرة.
برحيل ابن الجهة الشرقية من المغرب، سوف يكون كل ما كُتب عن حنينه إلى مسقط رأسه وإلى منزل العائلة الذي تحول إلى خربة في حي شعبي منسي وسط مدينة وجدة، مجرد “كلام جرائد” جزائرية. إذ إن الحلم لم يتحقق ولم يعد الرئيس إلى عتبة المنزل الذي غادره سنة 1956 لكي يستريح من رحلة سياسية طويلة جدا في الجزائر.
كل الذين تابعوا جنازته لاحظوا أنها أثارت السخرية والانتقاد، رغم أنه لا محل للسخرية أمام رهبة الموت. المعارضون الجزائريون انتقدوا أن يُحمل جثمان الرئيس الذي ثاروا ضده وخرجوا إلى الشوارع حتى لا يحكمهم من فوق كرسي العجلات لسنوات طويلة أخرى، فوق ناقلة عسكرية بكل ما تحمله من رمزية.
أما الذين يدافعون عن حصيلة بوتفليقة من أيام وزارة الخارجية مع الهواري بومدين ومرحلة الوئام المدني خلال نهاية التسعينيات وبداية الألفية الجديدة، فرأوا الجنازة التي خصصت له لا تليق برئيس دولة سابق كان عضوا في الثورة الجزائرية ومن مرافقي الجيل المؤسس للجزائر المستقلة.
غاب الجميع عن جنازة بوتفليقة وحضرت السياسة. هذا ما وقع بكل اختصار. لم تكن شخصيات وازنة حاضرة في وداعه، بغض النظر عن ظروف وباء كورونا. فما وقع في الجزائر خلال السنتين الأخيرتين جعل بعض الموازين تتغير داخل بلد المليون شهيد.
ماذا وقع في وجدة إذن؟ الذين يتذكرون بوتفليقة في وجدة أصبحوا يُعدون على رؤوس الأصابع. إذ إن يد الموت وصلت إليهم قبل أن يعيشوا لحظة رحيل ابن حيهم الذي كانوا يشاهدونه خلال السبعينيات في التلفاز ولا يدرون أيفتخرون به لأنه واحد منهم ووصل إلى وزارة الخارجية في الجزائر ويرافق الرئيس الهواري بومدين إلى موسكو ويتحدث إلى الصحافة الدولية بمعطفه الثقيل وقامته القصيرة، أم يتبرؤون منه لأنه أصبح الذراع الأيمن لأكثر شخص جزائري كره المغرب في التاريخ.
لا يزال هذا الشعور المحير يخيم على سكان مدينة وجدة، خصوصا الجيل الثاني الذين سمعوا من آبائهم قصصا عن بوتفليقة وصداقاته وحتى انكساراته ومعاناته بينهم قبل أن يقرر المغادرة نهائيا إلى الجزائر.
من عِبر الزمن أن يرحل عبد العزيز بوتفليقة عن الحياة نهاية الأسبوع الذي ودعناه، وبلاده تطبق قرارا أحاديا بقطع العلاقات الدبلوماسية مع المغرب، على طريقة العصابات وليس على طريقة الدول المحترمة التي تتوفر على حكومة وبرلمان.
اسم عبد العزيز بوتفليقة لوحده كاف لإحراج الجزائر. فهو الذي كان يشكل جسر المحادثات بين الجزائر والمغرب خلال منتصف الستينيات. وهو الذي مثل بلاده أثناء اتفاقيات مع المغرب بصفته وزيرا للخارجية.
وهو الذي وقّع اتفاقيات أخوة وصداقة مع المغرب سرعان ما تخلت الجزائر عنها. بوفاته صار مُحرجا لوسائل الإعلام الرسمية الجزائرية أن تتناول حياة بوتفليقة بالتفصيل لأن كل تفاصيلها محرجة الآن للنظام.
وحتى عندما تحسنت علاقة المغرب مع الجزائر خلال سنة 1980، بعد وفاة الهواري بومدين، كان بوتفليقة مطرودا من بلاده ويعيش على كرم الدول العربية التي تستضيفه في فنادقها المصنفة ويقضي السنة متجولا بينها بعد أن أصبح ممنوعا من العودة إلى البلاد بصفته واحدا من الحرس القديم لعهد بومدين العسكري، حيث لم يتمكن من العودة إلا في نهاية التسعينيات حين تمت الاستعانة به لإخراج البلاد من حمام الدم الذي غرقت فيه بسبب صراع النظام مع جبهة الإنقاذ الجزائرية، لقيادة البلاد، وسرعان ما اتضح أن الذين عادوا به رئيسا كانوا في الحقيقة يشعرون بالحنين لعهد بومدين وأحضروا ظله لكي يعيد الجيش إلى السلطة مرة أخرى.
هذه هي وظيفة الموت منذ أن بدأ التاريخ. إحراج الناس وتذكيرهم بما لا يريدون استحضاره. وموت بوتفليقة أكبر امتحان لذاكرة الجزائريين.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى