للجنون ممارساته
لا ينام المرء ملء جفنيه.. هو يسدلهما كستارةِ أوّل الليل.. يدركُ في لا وعيه أنه سيشرعهما كحركة روتينية لدخول الشمس في اليوم التالي.. حين تلقي أشعتها ببطء على وسادته الملقى عليها رأسه بثقل.. يفتحهما بتراخٍ بليد.. ويأتي السؤال الروتيني.. «أهو يوم جديد أيضًا؟»
هو يومٌ جديدٌ..
للجنونِ ممارساته.. كالنظر في المرآة.. والبحث عن ملامح الوجه.. في الخطوط الجانبية التي تكاثفت مع مرور الوقت.. في السّواد الدائريّ كهالة غير قدسية لا تشع.. كملء يديك بالماء ورشه على وجهك كي تستفيق أكثر.. كدوران فرشاة الأسنان دون عدّ الدقائق.. هي أشياء عادية جدا ليوم جديد..
فما الذي ينخرُ داخل دماغك المجنون؟
أهو السؤال الروتيني أم حذركَ المريض من الهواء الذي تتنشقه دون تفكّر به؟ أهو شهيقكَ؟ زفيرك؟ أم كيفية البحث عن استقرارهما؟
للجنون ممارساته.. كالكتابة لإفراغ هواجسك ونزفك وفرحك وحزنك وألمك.. واستمرار تنفسّك.. كقراءة نص يمسّكَ عن قُرب.. كالإصغاء إلى الموسيقى هربًا من ضجيج ينخر دماغك..
هو يومٌ جديد..
قد يأتي بما تتوقعه.. كوقعِ خطواتٍ تدوسُ على عشرات الأوراق المتساقطة.. المتخذة ألوان ترابية.. باهتة.. لا شأن لك بها ولا أنتَ بناظرٍ إليها..
هو الصوت فقط ما يشبه يومكَ الجديد..
يبدو خياراً جيداً أن تسير في عتمة طويلة لا يجاملك فيها نفق.. ولا يبتزك نور.. هكذا ببساطة تعيش العمى بقرار وحيد لا يقبل النقض ولا النقاش..
ترخي سمعك لكل دبيب موازٍ يقتحم سراديبك المتآمرة.. تتجنب السير بسرعة لئلا تصطدم بجنون بأي شيء.. ترفع قدما.. وتؤجل وضعها على الأرض حتى لا تدوس هشاشة الموتى الذين تناثروا تحتك..
تكون سعيداً وقابلاً للحياة ثانية حين تفعل هذا مراراً.. فالنور مرهق.. والتفاصيل المضيئة معتمة..
ابحث عن سردابك الطويل وعتمتك الباهرة.. تكوم داخل الفناء الذي لا خلاص منه.. تحرر من السطوع.. وكن هشاً في زاوية من هذا الكون.. أحسن وأكرم من كونك تسير بلا تميز وسط المهووسين بالنور وبالانتفاخ..
اعتزل العالم.. تجرد من ماهيتك البيضاء.. وقدس السواد فهو أصل الأشياء.. السماء مظلمة.. وعمق البحر مظلم.. وبرودة الدم وشرايينك التي تحب وتكره مظلمة..
اعتزل الضياء.. اجحد وجوده الأنيق وتميز!