لقاحات كوفيد .. الاقتصاد والسياسة والأخلاق
سامح راشد
عانى العالم عاما بطوله من غياب أي وسيلة دوائية لمواجهة جائحة «كوفيد – 19». وكانت معامل الأبحاث وشركات الدواء العالمية تتعاون بإيجابية لتسريع التوصل إلى لقاح يحمي البشر من فتك هذا الفيروس. وفجأة منذ أشهر قليلة، توالت الأنباء سريعة عن اكتشاف لقاحات يمكنها وقف انتشار الفيروس. بدأت من الرئيس الأمريكي السابق، دونالد ترامب، عشية إجراء الانتخابات الرئاسية بأيام قليلة، ما بدا خطوة دعائية وإجراء انتخابيا أكثر منه إعلانا عن اكتشاف حقيقي استوفى الشروط والإجراءات المعملية والاختبارات السريرية اللازمة.
وسرعان ما بادرت دول وشركات وجامعات أخرى إلى الخطوة الأمريكية المتسرعة نفسها. ولم تجرؤ أي دولة أو شركة أو جامعة على تأكيد فعالية اللقاح الذي توصلت إليه، بنسبة تتجاوز 80 في المائة. وسرعان ما اتضح أن تلك النسبة ذاتها ليست مؤكدة، ولا دقيقة، ولا تنطبق على كل المصابين بالفيروس، حيث بدأت تظهر أعراض سلبية نادرة ومتفاوتة على بعض المصابين، حسب الشريحة العمرية، أو وفق الخصائص البيولوجية والحالة الصحية لمتلقي تلك اللقاحات، بل وصل الأمر إلى حدوث حالات نادرة أيضا لوفاة مفاجئة وغير مفهومة بين من تم تلقيحهم.
وعلى الرغم من دواعي الشك ومبررات التخوف من تلك اللقاحات جميعا، شهد العالم سباقا بين الشركات والدول المنتجة لتلك اللقاحات، ليس فقط على تداوله وتقديمه إلى المواطنين داخل تلك الدول، لكن أيضا على تصديره وتعميم استخدامه على أوسع نطاق ممكن، فصار المشهد كما لو كانت الجائحة تحولت من تهديد عام شامل لكل شعوب العالم، ويهدد أبناء الجنس البشري على الأرض كلها من دون استثناء أو تمييز، إلى فرصة استثنائية للتجريب والاختبار في صحة البشر، وللتجارة وتحصيل أرباح طائلة في الوقت ذاته.
وليس أدل على ذلك من إدارة الدول المنتجة عملية إنتاج تلك اللقاحات وتداولها وتصديرها، بمنهج التعامل نفسه مع أي منتج أو سلعة. بالبحث عن السوق الاستهلاكي الأوسع والأكثر قدرة على دفع ثمن باهظ للتلقيح بجرعة لا تزال في طور الاختبار. وحرمان شعوب الدول الفقيرة التي لا تملك ذلك الثمن. إذ لا تزال الشعوب الفقيرة في إفريقيا وآسيا تنتظر وصول كميات كافية من اللقاحات. مثلا أوغندا، وعدد سكانها 45 مليون نسمة، تحتاج أكثر من 18 مليون جرعة. ولم تتلق منها سوى 860 ألفا. وهو ما دفع مدير المعهد الأوغندي لأبحاث الفيروسات إلى توجيه استغاثة بأن «على الدول الغنية ألا تكون أنانية». ولكن الحاصل أن الدول الغنية ليست فقط أنانية تجاه الشعوب الفقيرة، بل تجاه أغنياء آخرين أيضا، فأوروبا تتجه حاليا إلى منع تصدير اللقاحات إلى خارج القارة العجوز. حيث قررت إيطاليا منع تصدير اللقاحات المصنعة داخل منطقة اليورو، وكانت أستراليا أولى الدول المتضررة من هذا التوجه. وحظيت الخطوة الإيطالية بتأييد فرنسا وإسبانيا، من منطلق أن الشعوب الأوروبية «أحق» باللقاحات «الأوروبية». أي أن الأمر لم يعد مقصورا على حسابات التجارة والمكسب، بل صارت هناك نزعة قومية واضحة تطبع التعاطي الأوروبي مع أزمة اللقاحات.
أخلاقيا، التسرع في إنتاج لقاحات لم تثبت بعد فعاليتها ضد الفيروس بشكل كامل يعني التضحية بملايين من «بشر التجارب». وسياسيا، لم يعد العالم يبحث عن تعاون أو تكامل في مواجهة الأزمة، كما كان الحال قبل عام. أما اقتصاديا، فالأمر محسوم، فكل بقعة في الأرض تحتاج اللقاح. ولكن من ينحاز لقارته العجوز على حساب الأستراليين، أو غيرهم من الشعوب الغنية، لن يعبأ بفقراء العالم.