ما زال لغز عصر النهضة في أوروبا محيرا، فما الذي يوقظ الأمم من سبات الجهالة؟ وأذكر أنه جاءني في يوم برسالة من عبد الحليم أبو شقة، صاحب موسوعة «تحرير المرأة في عصر الرسالة»، سؤال محدد: ما الذي يعين على إيقاظ الوعي عند الإنسان؟ وما هي الكتب التي تساهم في ذلك؟ ومنذ ذلك الوقت وأنا أنصح كل مهتم بالمعرفة أن يضع في بيته مائة إلى مائتين كتاب لا يزيد، تعتبر حجر الكبريت في إيقاد زناد المعرفة. وأعترف أنا شخصيا بأنني نشأت من أبوين شبه أميين، ولم يكن في بيتنا كتاب واحد، ولا أعرف من أين جاءني الشغف بالكتب، فلا يغادرني الكتاب حيثما حللت ورحلت، كما قال الفيلسوف الإنساني «إيراسموس»: «إن بيتي هو المكان الذي توجد فيه مكتبتي». مع هذا فكتب الفلسفة تستطيع أن تصف عصر التنوير، دون تحديد سببه (Renaissance)، الذي بدأ في منتصف القرن الخامس عشر وما زالت أمواجه تكبر وتتدافع حتى اليوم. وكل حدث اجتماعي يخضع لمعادلة تجمع ضفيرة من العناصر، فلا يمكن المراهنة على عنصر دون سواه كما هو الحال في معادلة الإلكترون، وكل طوفان الحداثة هو من ذلك البركان الذي تفجر من شمال إيطاليا ليغطي كل القارة الأوروبية، ثم يأسر العالم جميعا، ويحدد الدارسون بأنه جمع ما لا يقل عن عشر مزايا على شكل حلقة كل طرف يؤثر في الآخر على نحو متبادل عكوس. فقد نشأ شيء اسمه (الفلسفة السياسية) في محاولة اكتشاف قوانين اللعبة السياسية، مثلها في أوضح صورة كتاب «الأمير» لمكيافيللي. وظهرت بدايات (الاتجاه الإنساني) الذي لا يعبأ بالقومية وقام بنقد النصوص الدينية، ظهر هذا واضحا عند إيراسموس وتوماس مور. وتقدمت الفنون التكنولوجية، سواء في التعدين أو التنجيم أو نظام السقاية. وكانت أوروبا لا تعرف الحمامات وتقتل الساحرات والقطط في الساحات العامة، وتعالج السعال الديكي بلبن الحمير. وولدت المطبعة على دهشة من أوروبا على يد «غوتنبرغ»، ومع الطباعة والورق تحرر عقل الإنسان كما يقول المؤرخ البريطاني «هـ . ج . ويلز» في كتابه «معالم تاريخ الإنسانية»، وبدأت عملية إحياء الدراسات الكلاسيكية في الآداب والفنون والفلسفة. ولأول مرة بدأ تداول أرسطو وسقراط وسينيكا وإبيكتيتوس بعد العصر الإغريقي ـ الروماني، ولكن بنسخة معدلة، فلم تعد الفلسفة هرطقة. ولأول مرة تبدأ العلوم في الانتعاش والتقدم على كل الجبهات في الطب أو الفلك أو الجغرافيا أو الكيمياء وعلم النفس والتاريخ. فالمخترع «ليوناردو دافينشي» يتنبأ بأشياء كالخيال من الطيارة والغواصة. وتتحول معرفة السماء من (علم التنجيم) إلى (علم الفلك)، وعلم (الخيميا) ليصبح علم (الكيمياء)، ولم يعد الشغف باكتشاف إكسير الحياة وينبوع الشباب وتحويل المعادن الخسيسة إلى ذهب. وكل هذه الخطوات المنهجية فتحت الطريق لتطور كل العلوم لاحقا على نحو تراكمي يخضع لقانون الحذف والإضافة. وكما يقول المؤرخ الأمريكي «ويل ديورانت» في سفره «قصة الحضارة» إن عام 1543 كان عام العجائب ففيه تم خرق السماء والجسم والأرض؛ فرسمت الأرض بجغرافيا جديدة ولم يبق مكان لبحر الظلمات، ولأول مرة دار «ماجلان» حول الأرض الكروية، بعد أن كانت شيئا نظريا متنازعا عليه. وقلب «كوبرنيكوس» المفهوم الكنسي حول الأرض التي يدور حولها كل شيء، وتحولت إلى كوكب تافه في مجرة عملاقة في نظام شمسي لانهاية لحدوده، كما عبر عن ذلك الفيلسوف الفرنسي باسكال: «نحن نأتي من العدم ومطوقون باللانهائي، ولا نعرف شيئا عن العدم الذي خرجنا منه، كما لا نعرف شيئا عن اللانهائي الذي يغلفنا، ونمضي في النهاية إلى العدم من حيث خرجنا فلا نبقى شيئا مذكورا. وإذا نظرنا إلى أنفسنا في اللحظة الواحدة؛ فنحن كل شيء مقارنة بالعدم الذي خرجنا منه، ولكننا عَدَم بالنسبة إلى اللانهائي الذي يطوقنا، وهكذا فنحن نسبح في اللحظة الواحدة بين العدم واللانهائية بدون إدراك للطرفين وفهم للحافتين». ودخل «فيزاليوس» بجرأة إلى تشريح الجسم بعد أن كان هذا العمل حجرا محجورا، وعرفنا أن البدن آلة فيزيولوجية تعمل بقوانين مثل أي آلة مع فارق التعقيد، وبذلك دخل العلم إلى آلية الأمراض ومعالجتها على نحو انقلابي، فتحرر الطب من الخرافة والسحر والشعوذة. وكان العصر عصر المغامرات والاكتشاف، ففي عام 1492م كان (عبد الله الصغير) يسلم مفاتيح غرناطة في الشتاء. وفي العام نفسه بعد أن اتحدت إسبانيا، انطلق «كولومبوس» في رحلة إلى المجهول بأغرب من ارتياد المريخ هذه الأيام، وأعجب ما فيها هي فكرة الوصول إلى الشرق من الغرب، مثل من يريد أن يدل على أذنه اليسرى باليد اليمنى. والذي دفع إلى هذا الضغط العثماني الذي قطع طريق التجارة إلى الشرق فأصبحت إسبانيا والبرتغال وظهرهما إلى المحيط ومنه جاء الخير، فأما البرتغال ففضلت تطويق العالم الإسلامي تسللا بجانب الشواطئ الإفريقية التي بدأها الأمير «هنري الملاح» عام 1418م، وأما «كولومبوس» فقد ضرب ضربته التاريخية فنقل الحضارة كلها من حوض المتوسط إلى الأطلنطي، ووضع يد الغرب على أراض أكبر من سطح القمر. ولكن أهم ما حصل على الإطلاق كان الإصلاح الديني الذي جاء منه الفتح المبين. ومن سبق «مارتن لوثر» كان الفيلسوف الإنساني «إيراسموس» الذي كتب عام 1517م إلى صديقه الكردينال يورك: «في هذا الجزء من العالم أخشى أن هناك ثورة عظيمة توشك على الوقوع»، وفي أقل من شهرين وقعت ثورة مارتن لوثر. وحسب المؤرخ البريطاني توينبي، فإن استعصاء انتصب أمامه لفهم التاريخ البريطاني واقفا لوحده، ذكر هذا في مطلع كتابه عن دراسة التاريخ الإنساني، أنه حتى انجلت الأمور أمامه كان عليه تتبع مسار الأحداث على نحو تراجعي، ليصل في النهاية إلى الإصلاح الديني في العصور الوسطى. ويبدو أن ما ينتظر العالم الإسلامي لوثر جديد.
خالص جلبي