لعبة السلطة
الكثير ممن يقفز إلى السلطة أو يصعد السلم الملكي أو يطأ بقدميه السجاد الأحمر، لا يعرف أنها مدخل إبليس، فيظن أنه استراح وانتهى إلى سدرة المنتهى، وهي بداية الرحلة الآفلة؛ فالشيطان دخل على قلب آدم بعبارتين: الخلد والملك، فقال (هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى).
وفي التاريخ مسرحيات وقصص تدعو إلى العبرة لمن غفل عن الدرس، فمن يغفل عن قوانين الله فإن قوانين الله لا تغفل عنه.
يقال أن (نيكولاوس فوكييه) كان وزيرا للمالية في عهد الملك (لويس الرابع عشر) ولكن نقطة ضعفه كانت في حبه للشعر والحسناوات، والأهم أنه أحب المال حبا جما، فعاش حياة باذخة، والتمع نجمه في الصالونات الباريسية، وعندما مات رئيس الوزراء (جول مازاران) عام 1661 م طمح أن يقفز إلى المنصب الفارغ، وانتهز هذه الفرصة كي يدخل إلى روع الملك أنه خير من يقود البلاد؛ فدعا سيده إلى حفلة تدشين قصره الجديد (فو ـ لي فيكومت VAUX – LE-VICOMTE).
وفي تلك الأمسية احتشد في حفلة الافتتاح نجوم المجتمع الباريسي مثل (لافونتين) و(لاروشي فوكو) و(مدام دي سيفني)، وأعد الشاعر (مولييه) قصيدة رائعة في مدح (ملك الشمس) الشاب لويس الرابع عشر، وأكل القوم على أنغام الموسيقى، من ألوان الطعام الشهي، ما عرفوه وجهلوه، مما لم يذقه أحد من قبل في فرنسا، على يد طهاة استقدموا خصيصاَ من الشرق، وعلى سبع طبقات من ألوان الطعام المتتابع. وفي المساء أخذ الوزير مليكه ليمتعه بعجائب القصر وحدائقه الغناء، وختمت الحفلة بالألعاب النارية، ثم قام الشاعر (مولييه) فألقى قصيدته في مدح الملك، واستمرت الحفلة إلى ساعة متأخرة من الليل، وودع الملك وزيره وفي يده باقة من ورد فواح من كل صنف زوجان.
ونام الوزير فوكييه على أحلام وردية، فالمنصب أصبح قاب قوسين أو أدنى من قدميه المخمليتين، ولكنه في الصباح فوجئ بقرع بابه بشدة واقتحام قصره من كوكبة من الجند الملكي لإلقاء القبض عليه.
لم يصدق عينيه وظن أن خطأ ما قد حدث فصاح بهم: يا قوم لعل هناك خطأ ما؟ فأجابه رئيس الحرس الملكي الخاص (دي آرتينيان): أنت وزير المالية فوكييه بالطبع؟ أجاب نعم أنا هو. فقال رئيس الحرس: معنا أمر من الملك لويس 14 بإلقاء القبض عليك.
قال الوزير بذعر: يا شباب هذا غير معقول؛ فالملك كان هذه الليلة عندي في حفلة افتتاح القصر حتى الفجر. قالوا له: معنا أمر خاص موقع بيد الملك لاعتقالك. وبقي الوزير المنكوب ثلاثة أشهر رهن التحقيق، ثم أدين باختلاسات مالية كبيرة من خزينة الدولة، ثم أودع سجنا إفرادياً في جبال (البيرينيه)، ليقضي به بقية أيام حياته، فلم ينم في قصره الجميل إلا ليلة واحدة.
كثير من الناس ينفقون أموالهم وأوقاتهم في بناء دور وقصور لينتهوا فيها أمواتا، كما حصل مع جار لي مشهور، أو ما حصل معي بعد أن بنيت لنفسي فيلا في الجولان فأصبحت في يد جيش بشار البراميلي أو الجيش الحر وسمعت في الأخير أنها تحولت إلى مخبز لأهل حوران فقلت حسنا. بعدها بنى الملك لويس الرابع عشر قصر (فرساي) على نفس نمط قصر (فوكييه) بهندسته وديكوره، وكان يحتفل به في الليالي ذوات العدد، في حفلات أشد بذخا من (فوكييه) حتى مطلع الفجر، بدون خوف أن يعتقله أحد في ضحى اليوم التالي.
إذا كان وزير الماليه قد نام تلك الليلة المشؤومة فإن الملك لويس لم تذق عيناه طعم الكرى، وليس هناك أخطر من التماع وزير بأشد من الملك. لقد شعر الملك الفرنسي في تلك الليلة أن وزيره خطف الأنظار ودفعه إلى الظل، وعندما اعتقله لم يقل مطلقاً أنه حسده. إنه بشكل أو آخر مصير كل أولئك الذين لا يحسنون التصرف مع من هم فوقهم في التراتبية الاجتماعية، فيجعلونهم يخافونهم أو يدخلون الخلل إلى تقديرهم لأنفسهم، أو يحدثون ضربا من الانهيار في خيلائهم، وإدخال الشك في تفردهم.
وصاحبنا الوزير ظن أنه يحسن صنعا عندما دعا الملك إلى حفلة لمع فيها أكثر من اللازم، بحيث تحولت كل نظرة إعجاب له أو كلمة إطراء عليه ضده. إن الحسد خطير ويولد العداوات، وهو موجود في صدر كل منا يتحرك بالتميز. وأنصح قرائي بمراجعة كتاب إحياء علوم الدين للغزالي في جزئه الثالث، حيث يؤكد على أن الحسد أكثر ما يكون بين أهل المهنة الواحدة أو القرابات ما لم يعالج بالتقوى وتذكر أن الحياة الدنيا متاع الغرور، وهو أمر يجب تكريسه لتخفيف أثر الحسد في صدر كل واحد منا.
ولقد أدرك الوزير اللاحق (جان بابتيست كولبير) هذه الحكمة البالغة في عصر يقول فيه الملك (أنا الدولة) فالمال سيصب في النهاية إلى جيب الملك مدرارا، فلم يحاول أن يبتني لنفسه القصور لينتهي في القبور. وعلق (فولتير) على حادثة انهيار وزير المالية (فوكييه) بقوله: (عندما بدأ المساء كان فوكييه الأعظم ولكن عندما انتهى سقط إلى الأرض حطاماً).