شوف تشوف

الرئيسيةتقاريرملف التاريخ

لزعر.. مقاوم مغربي اجتمع عنده رؤساء الجزائر

جعل منزله مقرا للهلال الأحمر الجزائري وكرس حياته للثورة

هذا الرجل أحدث ثورة ضد محيطه أولا وتحرر من قيود كثيرة، قبل أن يصير محمد بن حليمة الذي عرفه الجزائريون والمغاربة.

مقالات ذات صلة

هذا الرجل غادر الوظيفة التي حصل عليها سنة 1923، وكان بإمكانه أن يتقاعد إطارا في إدارة السكك الحديدية، لكنه قرر سنة 1931 أن يغادر الوظيفة ويفتح دكانا صغيرا في وجدة.

هذا الدكان مارس فيه العمل السياسي والإنساني، وربما كانت التجارة هي النشاط الوحيد الذي لم يمارس في ذلك المتجر.

لكن أهم ما في سيرة بن حليمة، الملقب بـ«لزعر»، أنه كان شاهدا على ميلاد الثورة الجزائرية واجتماعات قادتها، كيف لا وهو يمتلك مقر «الهلال الأحمر الجزائري»، ومكتب قيادة الثورة الجزائرية، بعد أن وضع منزلين في ملكيته رهن إشارة هواري بومدين وأحمد بن بلة وبقية أعضاء قيادة الثورة الجزائرية.

 

يونس جنوحي:

 

+++++++++++++++++++++++++++++

 

الشاهد المغربي الأخير على كواليس قيادة الثورة الجزائرية

في سنة 1907، وُلد محمد بن أحمد بن حليمة، وهذا اسمه كاملا، لكي يكون شاهدا على جزء مهم من تاريخ العلاقات المغربية الجزائرية في خمسينيات القرن الماضي.

ورغم أنه توفي سنة 1991، إلا أنه كان آخر الشهود الذين ظل بقاؤهم على قيد الحياة مزعجا للجزائريين الذين تنكروا للتاريخ المشترك مع المغرب.

في هذا الملف سوف نتناول تفاصيل من حياة هذا الرجل الذي أبان عن تمرد كبير على واقع المغاربة في عشرينيات القرن الماضي. فقد التحق بعد حصوله على الشهادة الابتدائية سنة 1923 بالوظيفة، التي كانت حلما بعيد المنال لأغلب المغاربة، وغادرها سنة 1931 رافضا التعامل مع الفرنسيين، مفضلا أن يفتح دكانا يستقل به أولا عن فرنسا، ثم يفكر في النضال لاستقلال البلاد.

وفعلا، بدأ مبكرا أنشطته السياسة مع الحركة القومية. إذ إنه أدى القسم سنة 1937 للالتحاق بهذا التنظيم السياسي الذي كان من أوائل الهياكل السياسية في تاريخ المغرب، أمام السياسي والأديب المغربي إبراهيم الوزاني، الشخصية الوطنية الذي كلفه الانتماء إلى الحركة القومية، حياته.

لكن شكلا آخر من أشكال النضال السياسي مارسه محمد بن حليمة بكثير من الشغف، يتعلق الأمر بتسيير المدارس الحرة المناهضة للمناهج الدراسية الفرنسية. إذ إنه كان من أوائل من سهروا على فتح المدارس الحرة التي تكرس أفكار الحركة الوطنية وتنزلها على أرض الواقع، في مواجهة المد الاستعماري الفرنسي في المغرب وليس فقط في المنطقة الشرقية.

كان محمد بن حليمة من مؤسسي «المدرسة الوجدية»، وهي واحدة من أوائل المدارس الوطنية التي تأسست في الجهة الشرقية، وسرعان ما أشرف على تجارب أخرى كان لها فضل كبير في تأطير شباب مدينة وجدة.

هذه الأنشطة كان يستفيد منها أيضا شبان جزائريون، بحكم أن بعض الجزائريين كانوا يعيشون في وجدة، في إطار عمليات النزوح، بسبب الاستعمار الفرنسي للجزائر، ووحدوا صفوفهم في وجدة، استغلالا لانخفاض التأثير الفرنسي في الحياة العامة مقارنة مع الأوضاع المحتقنة جدا في الجزائر.

هذا الحضور الجزائري في وجدة، جعل محمد بن حليمة في قلب القضية الجزائرية، خصوصا وأن دكانه الذي فتحه بعد مغادرة الوظيفة أصبح مقرا لاجتماعات قيادات الثورة الجزائرية.

لكن أكثر ما قد يثير الاستغراب، وهذه المعلومة أكدها الحاج معنينو في مذكراته، أن محمد بن حليمة كان يملك دارين في وجدة، منحهما لتصبح إحداهما مقرا للهلال الأحمر الجزائري، والأخرى صارت مقرا تابعا لقيادة جيش التحرير الجزائري. والذين عرفوا محمد بن حليمة كانوا يدركون أنه وضع الدارين اللتين كان يملكهما تحت تصرف الثورة الجزائرية دون أن يفكر نهائيا في استرجاعهما، حتى أنه سلم مفاتيح المنزلين إلى قيادة الثورة، بحضور هواري بومدين وأحمد بن بلة، دون أن يلزمها بأي شرط.

 

 

إدارة جمعيتي البيان الجزائري وعلماء الجزائر من «دكان» بوجدة

عندما كان بعض العقلاء في الجزائر، أيام هواري بومدين الذي حكم الجزائر منذ بداية الستينيات – بحكم أنه كان يتحكم في القرار حتى قبل أن يصبح رئيسا بعد الانقلاب على أحمد بن بلة- إلى حدود وفاته نهاية السبعينيات، يتحدثون عن دور المغاربة في تمويل الثورة الجزائرية، فقد كانوا يتعرضون لمضايقات واضحة من المخابرات الجزائرية، وأغلبهم اضطروا إلى مغادرة الجزائر والاستقرار في فرنسا.

هؤلاء، كانوا شهودا على مرحلة مهمة من تاريخ الجزائر. وهذه المرحلة، جرت كل كواليسها في مدينة وجدة وليس في الجزائر.

سيرة محمد بن حليمة، الملقب بـ«لزعر»، والتي سوف نتطرق إلى تفاصيلها في هذا الملف، كفيلة بكشف معطيات مهمة جدا في هذا الباب.

فهذا الرجل الذي كان يملك متجرا في مدينة وجدة منذ ثلاثينيات القرن الماضي، لم يكن موضوع شبهات لدى المخابرات الفرنسية، لكنه في الحقيقة كان مقرا سريا لعقد لقاءات مهمة صنعت تاريخ الجزائر، واستقلالها أيضا.

ورغم أن هذا المقاوم المغربي لا يعرفه اليوم حتى أغلب المغاربة فما بالك بالجزائريين، إلا أنه كان عضوا فاعلا في قلب الأحداث، وتوارى إلى الخلف بعيدا عن الأضواء – كعادته- منذ استقلال الجزائر، إلى أن توفي رحمه الله سنة 1991.

وبحسب الشهادة التي أفردها الحاج معنينو عنه، في سيرته التي أشار فيها إلى أدوار بعض الشخصيات الوطنية، من بينها محمد بن حليمة، فإن هذا الأخير اضطلع بأدوار حساسة للغاية في العلاقة بين المغرب واستقلال الجزائر. يقول الحاج أحمد معنينو، أحد قدماء الحركة الوطنية المغربية، في مذكراته: «كان محمد بن حليمة من أعضاء لجنة مدرسة العروبة لدعمها ماديا وأدبيا، وعندما قامت حركة الفداء كان المترجم من العناصر السباقة لتشكيل خلية فدائية تعمل على تدريب حمل السلاح والجهاد من أجل تحرير الوطن، بالإضافة إلى عمله السياسي في مكتب حزب الشورى والاستقلال، وكان متجره عبارة عن مقر لرجال الحركة الوطنية ومنتدى للوطنيين الأحرار والأبرار، لا فرق بين هذا الحزب وذاك، ونقطة التقاء بين سائر الوطنيين، ولم يكن هذا بالأمر الهين أو السهل أمام الاستعمار وأعوانه وعملائه، إلا أن نظام الاتصال كان محكما ودقيقا.

كما كان متجره همزة وصل بين حزب الشورى والاستقلال وجمعية البيان الجزائري التي كان يتزعمها فرحات عباس، وجمعية العلماء المسلمين الجزائرية. ولما فاز المغرب باستقلاله رفض الوظائف والكراسي ليواصل تجارته غير متنازل عن مبادئه، وقيم الحرية والنزاهة والمسؤولية والعدل والحق التي ناضل من أجلها».

عند النبش في الأرشيف الجزائري بخصوص موضوع الجمعيات الجزائرية التي كانت تحصل على دعم من المغرب، فإن هناك تعتيما كبيرا على الوقائع التاريخية. وقد اعترف باحثون جزائريون بأن الجامعات الجزائرية لم تكن تقبل بعض الدراسات والأبحاث التاريخية التي توثق لعلاقة المغرب الشرقي مع الجزائر، وسجلت حالات رفض كثيرة من أساتذة رفضوا الإشراف على بحوث تاريخية وتوثيقية تُعنى بعلاقة جمعية العلماء المسلمين الجزائرية، برجال مدينة وجدة وعلماء المغرب عموما. وهو ما يفسر غياب معطيات كثيرة في هذا الباب.

 

+++++++++++++++++++++++++++++++

 

مدرسة سيدي زيان الوجدية.. هنا درس أغلب ثوار الجزائر

في هذه المدرسة بالضبط، درس المقاوم المغربي محمد بن حليمة الذي يعرفه الوجديون، وقدماء المقاومة المغاربة بلقب «لزعر».

هذا الأخير، حصل على الشهادة الابتدائية في مدرسة سيدي زيان سنة 1923. وكان الحصول على هذه الشهادة وقتها حدثا كبيرا يُقام له ويُقعد، ليس في وجدة وحدها وإنما في عموم مناطق المغرب.

كانت الدراسة في مدرسة سيدي زيان أمرا يجلب على الأسر في المنطقة الشرقية احتراما كبيرا، بمجرد ما يلج أبناؤها أبواب هذه المؤسسة.

هناك شخصيات جزائرية درست في مدرسة سيدي زيان، وأبرزها هو عبد العزيز بوتفليقة الذي صار في ما بعدُ رئيسا للجزائر، بحكم أن والده من أصول جزائرية، رغم استقرار الأسرة لسنوات طويلة في وجدة وتعلقها بها إلى أن صار ابنها وزيرا للخارجية في الجزائر بعد استقلالها سنة 1963.

ولم يكن بوتفليقة وحده من بقي مدينا بالمستوى الأكاديمي الذي مكنه من بلوغ أعلى المناصب في الجزائر، قبل أن يُصبح رئيسا لها، لمدرسة سيدي زيان، بل كان هذا شأن أعضاء آخرين من قيادة الثورة الجزائرية، كلهم نشؤوا في مناخ مدرسة سيدي زيان ومحيطها، وعالم الولي الصالح سيدي عبد الوهاب، وهو بالمناسبة رأس الأسرة الوجدية التي ينتمي إليها المقاوم «لزعر»، إذ إنه حفيد مباشر للولي الصالح، وهي الأسرة الوجدية العريقة التي تحظى بمكانة كبيرة بين الوجديين. هذه المدرسة التي تعد الأقدم على الإطلاق في المغرب، شيدت سنة 1907 مع بداية الوجود الفرنسي في البلاد. وتبقى بنايتها أقدم حتى من معاهدة الحماية. وبعكس المدارس الأخرى التي كانت محسوبة على الفرنسيين، فإن سيدي بوزيان كانت قبلة حتى لأبناء الوطنيين وبعض المقاومين، رغم أنها كانت صناعة فرنسية خالصة. بل حتى أن بعض المدرسين الذين اشتغلوا فيها ودرسوا بها جيل عبد العزيز بوتفليقة، أي ما بين سنتي 1943 و1948، كانوا بدورهم ينتمون إلى المقاومة، ومنهم أيضا من تعرضوا للاعتقال.

كانت مدرسة سيدي بوزيان تسمى في البداية المدرسة الفرنسية العربية، نسبة إلى برامجها التدريسية التي كانت مزيجا من العربية والفرنسية، ومنها كانت فرنسا تحاول بناء جيل جديد من المغاربة الشرقيين المنفتحين أكثر على الثقافة الاستعمارية الفرنسية. وهو ما كوّن جدلا كبيرا في أوساط متعلمي المنطقة. سُميت بعد ذلك «المدرسة الإسلامية الحضرية»، لتحرر أكثر من التهمة الأولى التي لحقت كل ما له صلة بالوجود الفرنسي في البلاد.

هناك حقيقة تاريخية منسية تتلخص في أن جل الموظفين الجزائريين وبعض الشخصيات الأخرى المرموقة في الجزائر، تأثروا بالمناخ الذي كان ساريا في وجدة. فرغم أنها كانت قريبة جدا جغرافيا من الجزائر، إلا أنها كانت أكثر تحررا من باقي المناطق التي كان يسري عليها النظام الاستعماري الفرنسي، وهو ما جعل أسرا كثيرة في الجزائر، سيما منها المحافظة، تقرر نقل أبنائها إلى المغرب حتى تضمن لهم حياة أقل ارتباطا بالاستعمار الفرنسي.

مدرسة سيدي زيان كانت أول مدرسة نظامية في المغرب وبداية لتأسيس التعليم الرسمي العمومي في البلاد.

الشهادة الدراسية الابتدائية، التي حصل عليها محمد بن حليمة سنة 1923، كما قلنا، مكنته من ولوج باب الوظيفة الإدارية من أوسع أبوابه، وتَعَيَّنَ في مصلحة جباية الأبواب والأسواق، ثم انتقل إلى العمل بعدها في مصلحة السكك الحديدية. لكن مقامه في الوظيفة، التي كانت حلما كبيرا بالكاد يستطيع قلة فقط من المغاربة الوصول إليه، كان قصيرا، وقرر طواعية بقناعات شخصية أن يُغادر الوظيفة سنة 1931، والسبب أنه، بحسب ما حُكي عنه، يرفض التعامل مع الاستعمار.

 

 

ذكريات قاتمة من زمن سكة الحديد و«مصلحة الجبايات»

حاولنا النبش في سيرة محمد بن حليمة، الذي يدين له الجزائريون بالكثير، عندما يتعلق الأمر بتوفير أرضية للعمل السري أثناء تأسيس قيادة الثورة الجزائرية وجيش تحريرها. الحديث إلى ذ. محمد الگوشتي، المقيم حاليا بين الولايات المتحدة الأمريكية، حيث يستقر أبناؤه وأحفاده، وبين تولوز الفرنسية التي انتقل إليها منذ سنة 1970 للدراسة، يسلط بعض الضوء على محطات من حياة محمد بن حليمة. يقول: «بداية تعرفي على هذا الرجل، كانت في منزل جدي لوالدتي الحاج امحمد بن الطاهر. ففي سنة 1958، كنت أقضي العطلة الصيفية وأنا وقتها طفل في المدرسة الابتدائية في منزل الجد، وكان صديقا كبيرا للمقاوم «لزعر». وكنت أتذكر كيف كانا يجتمعان في قلب الدار إلى ساعات متأخرة، وهما يناقشان أوضاع الثورة الجزائرية، وكثيرا ما كنت ألمح بعض الغرباء -عرفتُ في ما بعد أنهم من قيادة الثورة الجزائرية- يعقدون معهما لقاءات مطولة.

عرفتُ لاحقا أن محمد بن حليمة كان موظفا مع جدي في مصلحة جباية الرسوم على ولوج الأسواق، وهي مصلحة إدارية في وجدة، مهمتها تحصيل ضريبة عن دخول الأسواق قبل بيع السلع، وكانت تنظمها الإدارة الفرنسية في أغلب مدن المغرب وقراه. وكان جدي موظفا مع محمد بن حليمة خلال منتصف عشرينيات القرن الماضي في المصلحة نفسها، لكن «لزعر» لم يشتغل طويلا مع جدي، فقد غادر مصلحة تحصيل الضرائب في الأسواق، إلى العمل في إدارة السكك الحديدية. لكني عندما تعرفتُ عليه في بيت جدي، كان يعمل تاجرا، وكان لديه دكان صغير اعتدتُ بين الفينة والأخرى أن أتردد عليه عندما كان جدي يجلس معه هناك. أتذكر أن الراحل بن حليمة كان يحثني في كل مرة يراني فيها على الدراسة، وهذه مناسبة لكي أقول إنه من مؤسسي المدارس الحرة المعارضة للمدارس الفرنسية في المنطقة الشرقية، وقد أنفق من ماله الخاص لتأسيس بعض المدارس الحرة، لتدريس أبناء المغاربة اللغة العربية ومواجهة مد اللغة الفرنسية في المغرب.

آخر مرة رأيتُ فيها محمد بن حليمة كانت في جنازة جدي سنة 1981، وكان وقتها قد تمكنت منه الشيخوخة، لكن شخصيته وقناعاته لم تتغير نهائيا. وللأسف لم أتمكن من لقائه بعد ذلك، بسبب انشغالاتي المهنية».

هذه الشهادة التي خصنا بها حفيد أحد رفاق محمد بن حليمة، والتي سوف نعود إلى نقاط أخرى منها في سياق آخر، كانت السبب وراء النبش في سيرته، والتي نؤكد هنا أن الإشارات إليه في تاريخ المنطقة الشرقية يكاد يكون معدوما، لولا مبادرة المقاوم الكبير، الحاج أحمد معنينو، الذي خصه بالذكر عندما أفرد في مذكراته التي يبلغ عدد أجزائها 11 جزءا، حيزا لسيرة محمد بن حليمة وذكره من بين عشرات الأسماء الأخرى التي ساهمت في تعزيز حضور حزب الشورى والاستقلال في الساحة السياسية لمغرب الحماية الفرنسية.

 

 

«لعنة» الانتماء إلى «الحركة القومية»

عندما غادر محمد بن حليمة العمل الإداري سنة 1931، وتخلى نهائيا عن الوظيفة التي كانت حلما مغريا، وصفه بعض من معارفه بالجنون. يقول د. محمد الگوشتي، في هذا الباب: «أثرتُ في إحدى زيارات محمد بن حليمة لبيت جدي، موضوع المقاومة في الجزائر. وكان هذا عندما كنت طالبا جامعيا، وحاولتُ أن أثير مع جدي ومع سي بن حليمة موضوع ذكرياتهما مع قيادة الثورة الجزائرية. وقد بدا لي وقتها أن سي بن حليمة كان منزعجا جدا من الأوضاع السياسية في الجزائر – كان هذا سنة 1976، أي بعد طرد هواري بومدين للمغاربة المقيمين في الجزائر- وتأسف كثيرا لأنه كان يعرف قياديين في الثورة الجزائرية، ووزراء جزائريين درسوا في وجدة وترعرعوا فيها. وأذكر أنه قال في حضور جدي إن بعض المسؤولين الجزائريين عليهم أن يخجلوا من أنفسهم عندما يتعلق الأمر بالعلاقات المغربية والجزائرية، ودور المغرب في حصول الجزائر على استقلالها عن فرنسا.

لم أكن وقتها أعلم أن محمد بن حليمة كان قد ساهم من خلال أنشطته في مجال المدارس الحرة، في تدريس أبناء الجزائريين الذين كانوا يعيشون في وجدة، خصوصا أيتام شهداء الثورة الجزائرية، إذ كان بصفته عضوا في لجنة مدرسة حرة، أعتقد أن اسمها كان مدرسة العروبة، فقد كان يتكلف بتسديد مصاريف دراسة أبناء الشهداء الجزائريين، لكنه لم يكن يريد التحدث في الأمر، وكان قد غير الموضوع عندما سألته عن دعم بعض الشخصيات الوجدية للثورة الجزائرية سنة 1954. وأذكر أنه رحمه الله قد أجابني بالقول إن الوطنيين المغاربة، خصوصا منهم أصدقاء محمد بن الحسن الوزاني، كانوا يدعمون الثورة الجزائرية ليس بالمال فقط وإنما بأرواحهم أيضا، ولم يكن من أخلاقهم نهائيا أن يتحدثوا عن قدر الأموال التي مولوا بها الثورة الجزائرية».

هذه الحقيقة تكشف بوضوح سبب ضياع جزء مهم من تاريخ التنسيق بين الوطنيين المغاربة لتمويل الثورة الجزائرية وإيواء عناصرها. فالرجال الوطنيون المغاربة لم يكن من أخلاقهم التباهي بما قدموه للثورة الجزائرية، إذ إن الوقائع التاريخية المتوفرة تكشف أن الأمر لم يكن يتعلق بالمال وحسب، وإنما أيضا بالسلاح، حيث إن المغاربة خاطروا بحياتهم على الحدود في وجدة، ومنهم من انتقل مباشرة بعد استقلال المغرب سنة 1956 لكي يشارك في تحرير الجزائر، وتركوا خلفهم حياة رغيدة في المغرب.

عندما يتعلق الأمر بالمقاوم محمد بن حليمة، فإن متجره الذي فتحه عندما غادر الوظيفة سنة 1931، كان مقرا حقيقيا لاجتماعات المقاومة، وهو ما أثّر على تجارته وتسبب له في خسائر، عندما كرس المحل لإيواء أعضاء الثورة الجزائرية وعقد اللقاءات بينهم. ويكفي هنا أن نقول إن بعض أعضاء الثورة الجزائرية كانوا قد مارسوا اغتيالات كثيرة في صفوفهم الداخلية لتصفية بعض الأسماء، وكانت مدينة وجدة مسرحا لهذه العمليات.

دكان محمد بن حليمة كان مقرا لتسلم قيادة الثورة الجزائرية الرسائل السرية وعقد بعض الاجتماعات التي لم يكن بمقدورها عقدها في الجزائر، بحكم أن أغلب أعضاء الثورة الجزائرية كانوا إما مُلاحقين من طرف الشرطة والمخابرات الفرنسية، وإما مخافة أن يُلقى عليهم القبض بناء على وشايات المخبرين الذين كانت أعينهم مفتوحة في الجزائر لرصد تحركات قيادات الثورة.

 

 

رؤساء الجزائر.. مروا من هنا

لا يمكن أن يجتمع اسم مدينة وجدة مع «الجزائر» دون أن يظهر لك اسم عبد العزيز بوتفليقة، الرئيس الجزائري السابق.

والسبب أن هذا الأخير فتح عينيه في وجدة ودرس فيها، وكاد أن يصبح موظفا مغربيا بعد إنهاء دراسته الثانوية، لولا أنه رأى أن مستقبله سوف يكون مع قيادة الثورة الجزائرية سنة 1954، لكي ينتقل إلى الجزائر، مسقط رأس والده.

لكن الحقائق المنسية تؤكد أن كلا من هواري بومدين وأحمد بن بلة، وهما معا رمزان مقدسان في الجزائر، مدينان بحياتهما السياسية لمدينة وجدة.

لوجدة إذن تاريخ منسي تماما، بخصوص الوساطة التي قامت بها المدينة بين بلدين، حيث شهدت التنسيق في العمليات بين الثورة الجزائرية والمقاومة المغربية للاستعمار الفرنسي. ورغم أن وجدة لعبت هذا الدور إلا أنها نُسيت تماما من التاريخ. حتى أن عبد العزيز بوتفليقة عندما أصبح رئيسا أدار ظهره للمدينة التي منحته كل شيء، ولم تحصل منه على أي شيء بالمقابل.

والد عبد العزيز بوتفليقة انتقل إلى وجدة واستقر بها في ثلاثينيات القرن الماضي، وراجت عنه بعض الإشاعات التي تفيد بأنه كان مخبرا للبوليس الفرنسي في الجزائر، وأنه خاف من أن يتم اغتياله على يد المقاومين الجزائريين، فقرر أن يهرب منهم إلى وجدة ويبدأ حياة جديدة هناك، وهكذا فتح ابنه عبد العزيز عينيه في مدينة وجدة، ونشأ بين المغاربة. لكن الابن عبد العزيز فوجئ بماضي والده، عندما قرر أن يلتحق بصفوف الثورة الجزائرية.

الصحافي الجزائري فريد عليلات أكد هذه المعلومة في كتابه الصادر بالفرنسية، أشهرا بعد رحيل بوتفليقة، عن الحياة السياسية للرئيس السابق للجزائر، حيث عنونه بـ«القصة السرية» لبوتفليقة. يقول هذا الصحافي إن بوتفليقة سنة 1954 أراد التسجيل في لوائح الثورة الجزائرية التي فتحت في وجدة، لكن الموظف وقتها قال له بشكل مباشر: «هل أنت هنا لتغسل ذنوب والدك». أي أن بوتفليقة في نظر الثوار الجزائريين يريد فقط غسل العار العائلي الذي لحقه، بسبب تعاون والده مع الاستعمار. والنتيجة أن طلبه رُفض تماما، ولكن بوتفليقة لم يستسلم وأعاد الكرّة سنة 1958 بعد أن تشبع أكثر بمبادئ الثورة الجزائرية، وتعرف على بعض رموزها في وجدة عن قرب.

بالعودة إلى موضوع كل من هواري بومدين وأحمد بن بلة، فقد كانا كلاهما يترددان على مدينة وجدة بشكل سري، هربا من الدوريات الفرنسية وأيضا هربا من التضييق على ممارسة العمل السري. إذ كانا يعلمان أن السلطات في المغرب، خصوصا بعد سنة 1956، تدعم الثورة الجزائرية وأن بإمكانهما التخطيط بحرية لتعزيز صفوف الثورة. وقد كانت دارمحمد بن حليمة مقرا لاجتماعاتهما، وتألم كثيرا عندما انقلب هواري بومدين على أحمد بن بلة، بعد استقلال البلاد، والطريقة المأساوية التي آلت إليها الأمور في الجزائر بداية الستينيات، والعداء الكبير وتسميم العلاقات مع المغرب بقيادة هواري بومدين، لكن كان عليه أن يتألم في صمت، ما دام أنه عاش من الداخل كواليس تأسيس الجزائر من مدينة وجدة.

محمد بن حليمة يبقى أحد أبرز من مولوا الثورة الجزائرية، لكن التاريخ لم ينصفه، لا في الجزائر ولا في المغرب. إذ إن الجزائريين مطالبون على الأقل بإفشاء نوع من العرفان لجيل بن حليمة، الذي صرف من ماله الخاص لتمويل ثورة الجزائر وإيواء الثوار الذين صار أغلبهم معادين للمغرب، منذ وصول الهواري بومدين إلى السلطة، منقلبا على أحمد بن بلة، أول رئيس للجزائر المستقلة. هذا الإنصاف المأمول في إعادة كتابة تاريخ الجزائر والإشارة إلى الرجال الذين كانوا فاعلين في تمويل الثورة الجزائرية، وحده قد يجعل الجزائريين يعرفون جيدا أن العدو الأول للجزائريين هم الذين حكموا الجزائر.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى