«لا يخصّنا سوى النظر في وجهكم العزيز…»
قد لا يعرف الكثير من المغاربة مدى التأثير الذي تمّ على يد هذا الفرنسي المشهور باسم فيليكس موغا Félix Morat في بداية سنوات الستينات من القرن الماضي، التأثير الذي ما يزال يمتدّ مفعوله إلى اليوم.
يقول التاريخ الحديث للمغرب المعاصر، والعديد من الشهادات التي مازال أصحابها قيد الحياة، إنّ سنة 1962 تحديدا كانت سنة انطلاق لأكبر عملية تهجير واسعة لليد العاملة المغربية باتّجاه أوروبا وفرنسا على الخصوص، للعمل في مناجم الفحم ومعامل الصلب التي بدأت تعرف من جهة توسّعا هائلا مع الانطلاقة القوية للاقتصاد الفرنسي بعد الدمار الذي خلّفته الحرب العالمية الثانية، وظهور الآثار الإيجابية لمشروع مارشال الأمريكي المرصود لمساعدة اقتصاديات أوربا المنكوبة بسبب الحرب، ومن جهة أخرى مغادرة الآلاف من العمال الجزائريين الملتحقين بالوطن حديث العهد بالاستقلال. هكذا ظهرت إلى الوجود هذه الشخصية موغا التي قدّر لها أن تحتلّ حيّزا مهما في الذاكرة المغربية عموما، والمهاجرة خصوصا.
«موغا» الذي تمّ تكليفه بانتقاء اليد العاملة المغربية القادرة على النهوض بالقطاع الصناعي والمنجمي الفرنسي، عوض العمال الجزائريين والفرنسيين غير القادرين على القيام بهذه الأعمال الشاقة، بدا من خلال الروايات المتواترة من قبل الشهود الذين عاينوا عملية الانتقاء التي عمد فيها موغا إلى اللجوء إلى أساليب تعود إلى عهود النخاسة، أيام الرواج الثلاثي حين كان تجار العبيد في الأمريكتين يختارون أنسب العبيد للأعمال الشاقة في حقول القطن وقصب السكر، وربّما كانت ذاكرته القريبة قد عادت به أيضا إلى الفترة النازية وقوات «S/S» الألمانية التي اختارها بعناية القائد النازي الشهير هاينريش هيملير، والتي أرادها أن تكون مؤلفة من خيرة شباب ألمانيا الذين تتوافر فيهم المواصفات الجسدية للجنس الآري من حيث طول القامة وقوة البنية والعيون الزرق، إضافة إلى الشعر الأشقر.
هنا أخذ موغا فكرته عن العامل المغربي الذي ينبغي له أن يخوض غمار الهبوط لمئات الأمتار تحت الأرض بمعوله للتنقيب عن الفحم الحجري، أو أن يقلّب أسياخ الحديد الملتهبة في أفران معامل الصلب. لم تغب لديه كذلك كلّ الدراسات التي قام بها ما أطلق عليه المستعمر الفرنسي (Bureau Arabe) تحت إشراف ضباط فرنسيين متخصّصين في علم الاجتماع الذي سمّي في ما بعد بالسوسيولوجيا الكولونيالية.
إنّ نزول «موغا» إلى المداشر والقبائل كان يمثل في تلك الفترة حدثا فريدا من نوعه، حيث توافد عليه المئات من الشباب عارضين هذه البضاعة البشرية أمام أنظار أعوانه الذين يقيسونها ويزنونها متأكدين من قوّتها البدنية وخلوّها من رخاوة ونعومة المدن وأنّها أمّية وغير متعلّمة، ولأنّ الوثائق الثبوتية الرسمية لم تكن متوافرة أو مشكوكا فيها فقد لجؤوا إلى التأشير على صدور هذه الماشية البشرية كما كان يفعل رعاة البقر مع قطعانهم، بطابع أخضر للمحظوظين أو طابع أحمر لسيّئي الحظ.
إنّ هذه الموجة من المهاجرين الذين كانوا أميين ولم يسبق لغالبيتهم أن غادروا جبالهم وأراضيهم، وجدوا أنفسهم في شمال فرنسا مكدّسين في مبانٍ غير لائقة، بمطبخ ودورة مياه مشتركة، يكدّون طيلة السنة في ظروف غير إنسانية، كان عزاؤهم الصغير هي تلك الرسائل الطويلة التي يتولّى كتابتها عامل شبه متعلّم، وتلك الأزجال والأغاني المؤلمة عن الغربة والهجرة. أمّا عزاؤهم الكبير فكان في تلك العودة إلى الأوطان محمّلين بالهدايا والكلمات الفرنسية التي التصقت بألسنتهم، وفي عطل الصيف المفضلة لديهم حيث يحلو لهم الاستمتاع بهذه المكانة والاهتمام الاجتماعيين اللذين طالما حرموا منهما في ديار الغربة، فيوزعون هداياهم على الأهل والمقربين، والتي كانت في الغالب عبارة عن علب شاي صيني وأكياس من القرنفل وعطر فرنسي ذي رائحة قوية.
هذه الموجة من المهاجرين المغاربة التي امتدّ حضورها في الذاكرة المغربية عقودا طويلة، وكانت مزوّدا رئيسيا للاقتصاد المغربي من العملة الصعبة لأكثر من عقدين من الزمن، تستوجب منا اليوم أن نحتفى بها وبذكراها، ألم تترك لنا عبر رسائلها هذه الجملة المعبّرة عن لسان حالها: «ولا يخصّنا سوى النظر في وجهكم العزيز…»؟