شوف تشوف

الرأي

لا إكراه في الدين

الإكراه والكراهية مرضان متلازمان، فلا يعد الإيمان إيمانا ولا الكفر مع الإكراه، وفي حال ممارسته فأعلن فرد إيمانه، أو كفره، فهو يبطن النفاق ويتربص الفرصة لقلب المعادلة. بكل أسف تاريخنا تشبع بمبدأي الإكراه والكراهية، بل إن مجتمع التوحيد يقوم على الفكرة، والوثني يقوم على القوة. هنا تنشأ ثقافة القوة وقوة الثقافة. نحن نذكر من تاريخنا بفرح سقوط القسطنطينية عام 1453م، ولكن هناك من يذكرها مع الدموع، فهل كان فتحها إسلامياً؟
ثم ما هي النتائج المدمرة على العالم الإسلامي من وراء هذا الفتح المبين؟
إن المشكلة هي أن ما يفعله المرء يراه عين الصواب، ولا يخطر في بالنا أن تاريخنا قد يكون في بعض صفحاته مرباداً أسود كالكوز مجخياً.
لقد عرض يومها محمد الفاتح على الإمبراطور (قسطنطين الحادي عشر) تسليم المدينة، مقابل تهجير جماعي لسكانها (على رواية قناة الديسكفري)، وتوطينهم في اليونان، ما يذكر بفعلة ستالين مع التهجير الجماعي للشيشان، أو الاقتلاع الجماعي لليهود على يد نبوخذ نصر وتيتيوس، أو مصير الأكراد في العراق.
وكما يقول (توينبي): (إن المؤرخين في العادة أميل إلى شرح آراء الجماعات التي يكدحون في محيطها منهم إلى نقدها).
إن عرض (محمد الفاتح) على فرض صحته، يذكر باحتلال القدس وطرد أهلها منها، ولكننا وتحت ضغط التحيز والرؤية الانتقائية نفقد حاسة النقد السليمة في أحداث طوتها لجة التاريخ.
وبغض النظر عن فظاعات الفتح وحجم النهب والسلب والاغتصاب على يد الإنكشارية ومقتل ملك العاصمة؛ فإن أول ما فعله الفاتح بأهالي المدينة المنكوبة أن وضع يده على أقدس مقدساتهم، فدخل كنيسة (آيا صوفيا) التحفة التاريخية التي أفرغ (جوستينان) خزينة الدولة على بنائها، وحولها إلى فاتيكان الشرق، فحولها محمد الفاتح إلى مسجد. في فعل لا يوصف بروح التسامح الإسلامية، ولا يذكر بعمل الفاروق (عمر) حينما دخل القدس بعباءة مرقعة، على ظهر حمار، يرفض الصلاة داخل كنيسة القيامة، حتى لا يتخذها بعض صغار النفوس حجة للاستيلاء عليها وتحويلها إلى مسجد؟
إن السيف الأموي في الأندلس، والمدفع العثماني في البلقان، يصلح تفسيرا لانحسار الإسلام عن أوربا، لأنه لم يكن انتشارا على منهج النبوة، بل اجتياحاً عسكرياً، وحين يرى من يرى حملات السلطان سليمان في مسلسل «حريم السلطان»، يرى الحجج الواهية للعاهل الأعظم في اجتياح أوربا وفرض الجزية الثقيلة عليهم. وهو ما دفع ثمنه البوسنيون متأخرا، ولم يبق للعثمانيين في أوربا الشرقية من باقية؟
نذكر أيضا من الأندلس أنه وفي عهد المنصور العامري لوحده تم شن 52 حملة عسكرية في الأندلس، وهو أمر ازداد انفصالاً عن منهج النبوة مع تقدم الوقت، وبدا أشد وضوحاً مع النموذج العثماني.
ولا تقف مشكلة استخدام القوة و(الإكراه) على صورة الفتح الفجة البدائية؛ بل آثارها المدمرة؛ فبعد زوال الضغط عن الجناح الغربي في شبه الجزيرة الإيبيرية انطلق تنين أوربي برأسين برتغالي وإسباني، كرد فعل على حروب لا نهاية لها في هذه الحافة المشؤومة، وانطلق فرسان (الاسترداد) على نفس الحصان العربي بعد تمرسهم الطويل على آلة الحرب ضد المسلمين.
وكما يقول المؤرخ البريطاني (توينبي) إن ردة الفعل لا تكون في التاريخ مثلها في الفيزياء؛ فهي هنا ليست مساوية في الفعل ومضادة في الاتجاه، بل أشد ارتكاساً وفي أكثر من اتجاه ما يشبه انفجار السرطان.
ظهر هذا واضحاً في العنف الفائق الذي استخدمه الإسبان ضد حضارتي الأزتيك والإنكا. وفي العاصمة (تينو شتتلان) في المكسيك ذبح 240 ألفا من السكان، ما يعادل ثلثي سكان عاصمة تشبه نيويورك حالياً.
وفي البيرو تم تخيير (أواتا هوالبا)، ملك الإنكا، بإنقاذه من الموت حرقاً بالشنق إن هو اعتنق المسيحية، ولم تنفعه فدية الذهب التي ملأها في غرفة ضمت ستة أطنان من الذهب و12 طنا من الفضة، جمعت من أرجاء مملكة تعج بعشرة ملايين من السكان على مرتفعات الأنديز.
وأما في شرق أوربا فكانت نتائج الضغط العثماني أشد ترويعاً؛ لأنه مع قطع طرق التجارة إلى الشرق، استند الغرب بظهره إلى بحر الظلمات، فقام بقفزته الكبرى إلى المجهول وعلى ثلاثة محاور:
ـ (غربي) فاكتشف أربع قارات جديدة، وآلاف الجزر الغنية، ووضع يده على مضائق البحار، ومعها الثروة العالمية، واليوم يمتلك الغرب في جيبه ثمانية قروش ونصف قرش من كل تسعة قروش في بنوك العالم أجمعين، وأعظم خزينة للذهب لا توجد في قصور سلطان المسلمين في بغداد، أو الإستانة، بل نيويورك.
ـ أما المحور الشرقي فأحكم شد الأنشوطة على عنق الضحية الإسلامية بالالتفاف حول أفريقيا.
ـ أما الشمالي فقد قام به القوقاز الروس فدمروا بقايا ممالك التتار واحتلوا القرم. يجب أن يشكر الغرب الأتراك جدا على ما فعلوه.
وعندما نذكر تدمير بغداد على يد التتار نحزن. ولكن احتلال القسطنطينية هو في عين آخرين (تتار) من نوع مختلف.
والأتراك على كل حال هم فصيل من التتار نزح من آسيا الوسطى. إننا بالعكس عندما نذكر احتلال القسطنطينية التي عمرت ألف عام بعد انهيار روما وذبح سكانها وهرب علماءها، نذكره بنشوة الفتح ونسميه إسلامياً.
كل هذا يحدث تحت ظاهرة (الوعي الانتقائي) و( العمى التاريخي) فليس عندنا قدرة على مراجعة تاريخنا، ولا نعتبر مثلاً أن معركة صفين كانت كارثة توقف فيها المد الإسلامي الصحيح والأساسي، وظهرت إلى السطح نسخة إسلامية أموية مزورة صادرت الحياة الراشدية، وتدثر الخليفة مرتاحاً بين الغلمان والحريم بعباءة كسروية وتحولت دولة (العدل) إلى (إمبراطورية) بيزنطية تجتاح الممالك بالسيف على مبدأ كرة الثلج: كل بلد يفتح يجند أولاده ويكبر جيش المرتزقة ليفتح به بلدا جديدا وهكذا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى