عيسى الشعيبي
قبل بضع سنوات خلت، حاولتُ ذات مرة، من على منبر صحافي، القيام بجولة رياضة ذهنية قصيرة للتمييز بدقة بين شخصية كل من الإنسان المتشدد وشبيهه المتعصب، للدلالة على الفوارق بينهما وبين ابن عمهما المتطرف، فوجدتُ أن هذين الغصنين (المتشدد وأخيه المتعصب)، المتفرعين من تلك الشجرة المسمومة، لا يطرحان ثمرا يؤكل، فيما الإنسان المتطرف لا يغل، بدوره، سوى قتاد لا يُخرط، في شتى بقاع الأرض، سيما في العالم العربي الإسلامي، المصاب بعدة أمراض مزمنة، خصوصا مرض التطرف الذي أنتج في مرحلة لاحقة مرض الإرهاب بمسمياته المختلفة، تنظيمي: القاعدة والدولة الإسلامية.
حاولتُ في حينه الولوج إلى دواخل الإنسان المتطرف، لمعرفة كيف يفكر، واستقصاء رؤيته الذاتية، محيطه الاجتماعي، متكئا، في حينه، على خبرة ذاتية محدودة، ومطالعات نظرية عديدة، عن سيماء هذا الإنسان الذي يهذي بانطباعات سطحية عما يدور حوله، غير أن ما كان يعوزني للغوص أعمق، الافتقار إلى خبرة شخصية مستمدة من تجربة عيانية ملموسة يمكن البناء عليها، وهو أمر تسنى لي أخيرا، عبر صحبة صغيرة إلى منزل متواضع، حيث اقتصرت الدعوة على الداعي (صديق قديم، كريم ورائق المزاج) واثنين من المدعوين، كنت أحدهما، وفيما كان المضيف كتلة من اللطف والكياسة، كان ثالثنا مثالا للإنسان المتطرف الذي لا يشبهنا، وهو ما وفر لي نموذجا قابلا للقراءة عن كثب، والوقوف مليا على حدود عوالمه الخاصة، وتمكيني من اختبار صحة ما استقر لدي من تشخيص سابق عن ماهية حامل السلم بالعرض هذا.
كان أول ما تيقنت منه بعد جولة حوار يحاكي المناكفة، أن مثل هذا الإنسان الذي يتجنب كثيرون منا الاحتكاك به عن قرب، ويفرون من أمام سجالاته العقيمة، انفعالي ومتعصب لوجهة نظره المتيبسة تماما، لديه أحكام مطلقة وتصنيفات جائرة، يجادل بنزق وضيق أفق، يفرط في الهجوم على مخالفيه الرأي حد الترهيب الفكري، وأحيانا يتجاوز على محاوريه حدود اللياقة، ويجهل كليا شيئا اسمه اللباقة، يعتقد أن لديه الحقيقة الكلية الكاملة، ولا يتعفف عن رمي خصومه بتهمة التفريط والخيانة، ناهيك عن الكفر والردة، طالما أنه المؤمن التقي النقي، وغيره من التقدميين والقوميين والليبراليين والديمقراطيين ملاحدة.
كما وجدت مثل هذا الإنسان، المتصبب غضبا وعرقا وتأففا، أحادي الرؤية للعالم الذي تديره حكومة عالمية متآمرة على العرب والمسلمين خاصة، لم تنفك يوما عن دس الدسائس لقومه، على الأقل منذ ذلك اليوم الذي تحالف فيه الغرب لإنهاء الخلافة أوائل القرن الماضي، وحدث ولا حرج عن بغضه الحضارة ذات النشأة الكافرة، وعن كراهيته مخرجاتها الهدامة، من إخاء ومساواة وحرية وديمقراطية، فكلهم متآمرون ونحن الضحايا الأبديون، جراء ما نشد عليه بالنواجذ، من صحيح رأي ومعتقد ومعرفة، من أصالة واستقامة ورفعة أخلاقية.
على أن أشد ما بدت لي عليه شخصية الإنسان المتطرف من خصال غير حميدة، يتمثل في غلظة القول السائدة في خطابه، وفي حدة الطرح الاتهامي لخصومه، وفي تماديه اللامحدود في الافتئات على معارضيه، بما في ذلك سبهم بأقذع الألفاظ، والاستهانة بهم إلى أبعد الحدود، الأمر الذي يجرد هذا الإنسان، الذي كثيرا ما نرى أمثاله على المنابر وعلى الشاشات وفي المجال العام، من القدرة على التسامح، وأهلية التسامي عن الفوارق الذهنية، مقابل قدرته الفائقة على الاختلاق والتزوير وإنكار الحقائق التي لا تتوافق مع منطلقاته ومعتقداته، باعتبار أن غاياته السامية تسوغ له الإتيان بكل ما من شأنه نصرة الحق الأبلج عنده، والذود عن حياض رؤيته المطهرة من كل دنس.
خلاصة القول المعزز الآن بتجربة ذاتية ملموسة، وإن كانت عابرة، عاينت فيها لحسن الحظ إنسانا متطرفا عدة ساعات فقط، أن مثل هذا الشخص كائن يعيش خارج مدارات عصره، لا يعرف من ألوان الطيف غير الأسود والأبيض، ولا يرى الناس من حوله سوى أنهم مؤمنون أو غير مؤمنين، يتفنن في كيفية تنفير الناس منه بدلا من كسب بعضهم إلى صفه، يهرف بما لا يعرف، ويغرف الوهم من معين عالم مظلم، ويهذر ذات اليمين وذات الشمال، فوق أنه أحادي الرؤية، فقير الثقافة وقليل الخبرة والمعرفة بقيم عصره الراهن، كونه رجلا ضيق الأفق، انتقائي الحجة، غيبي الفكرة، حاد الطبع ومتعجرف القول، قلق ومأزوم وهش من الداخل، يحتقر الاعتدال ويرى في الواقعية عيبا، وفي العقلانية رجسا من عمل الشيطان والعياذ بالله.
نافذة:
أشد ما بدت لي عليه شخصية الإنسان المتطرف من خصال غير حميدة يتمثل في غلظة القول السائدة في خطابه وفي حدة الطرح الاتهامي لخصومه وفي تماديه اللامحدود في الافتئات على معارضيه بما في ذلك سبهم بأقذع الألفاظ