شوف تشوف

الرأي

كيف ولدت فكرة السلاح النووي الإسرائيلي

بقلم: خالص جلبي

لم تولد فكرة السلاح النووي الإسرائيلي في (المدراشا)، ومجمع الموساد (الاستخبارات الإسرائيلية) جنوب تل أبيب، بل ولدت في (الفانين زي WANNENSEE)، بحيرة برلين، وهو المكان الذي اجتمع فيه أقطاب النازية في مطلع عام 1942، أثناء الحرب العالمية الثانية، لاستئصال اليهود من العالم. لم تتشكل في المناقشات السرية بين صانعي القرار في إسرائيل، في قبو مجمع الموساد جنوب تل أبيب عام 1964م، بل في الضاحية الجميلة على ضفاف بحيرة برلين في مطلع عام 1942م؛ حينما خطط (هايدريش) الرهيب، مساعد (هملر)، رئيس الغستابو النازي، للقضاء على 11 مليونا من اليهود بأوروبا. ولم يولد الجنين النووي الإسرائيلي في ديمونا، بل في معسكرات الاعتقال والإبادة في بولونيا، ومن الغريب ـ وهذه آلية معروفة في علم النفس ـ أن الضحية تتشرب نفسية الجاني فتعيد فعلته وتكرر جريمته؛ فهذه مأساة إسرائيل (إسبرطة) الجديدة التي تعيش على ذكريات (تيتيوس = Titius)، (القائد الروماني الذي دمر الهيكل عام 72 م)، ومحارق النازية في (أوشفيتز ـAUSSCHWITZ)
و(تريبلينكا). فالنازيون خططوا لـ(الحل النهائي) الجرماني، ومؤسسو الصهيونية خططوا لـ(الحل النهائي) الإسرائيلي خيار شمشون. ولكن العلم الجديد يحمل في جعبته مفاجآت الاستراتيجية النووية في العالم، فلنسمع قصته المثيرة.
قال لي زميلي الدكتور نبيل متسائلا ـ وهو محق في هذا ـ فهو يمثل شريحة ليست بالقليلة ممن (يفهمون) في العالم العربي: «يجب أن تفكر ليس وأنت خلف طاولة تحتسي كوبا من القهوة! بل وأنت تملك مقادير أمة وتوجه مصائر شعب، هل تنظر متفرجا بانتظار أن تضرب بالسلاح النووي الإسرائيلي لتمضي إلى الفناء؟». وكان الزميل يرى أنه لابد من المضي في هذا السباق (المجنون) من أجل الردع والتوازن، أي أنه ينصح بالمضي في الطريق نفسه الذي مشت فيه ديناصورات القوى العظمى في العهد (العتيق). وعقب الزميل الثاني: «الصلح الحالي هو مؤقت لدورة حرب في المستقبل»، أما الزميل الثالث فأضاف: «أنا مع أفكار السلام (النظرية)، ولكن الواقع أثقل في الميزان، والذي أوصل أوروبا إلى السلام هو الردع المتبادل، لذا وجب علينا الوصول مع إسرائيل إلى حالة الردع المتبادل».
هذه الأفكار التي أنقلها إلى القارئ تمثل (عينة) من فهم العالم الذي نعيش فيه، كما تمثل تشرب البيئة لـ(ثقافة العنف) التي يستحم فيها العالم جميعا. هذه الأفكار ليست في الواقع تمثيلا لأشخاص بأعينهم، بل إفراز ثقافة، وتعبير وسط اجتماعي، وفهم لطبيعة علاقات البشر، وإدراك طبيعة العالم الجديد الذي نعيش فيه. لذا فإن هذا البحث لم يكتب للعسكريين ـ فضلا عن السياسيين ـ لزيادة معلوماتهم، ففي جعبتهم غناء عن بضاعتي المزجاة، على الرغم من شغفهم بهذه البحوث.
هذه المقالة تتوجه بالدرجة الأولى للقارئ العادي كي تمنحه (وعي) العالم الجديد الذي نعيش فيه، مسارات القوة، تطور التكنولوجيا النووية ـ بما فيها الإسرائيلية ـ دورة التاريخ وعبرة الماضي، إدراك أفضل للاستراتيجية النووية التي تحيط بقدر العالم اليوم.
لا يمكن فهم أي حدث بمعزل عمن سواه، معلقا في الفضاء، مفصولا عما حوله، ما لم يدخل ضمن (القانون الجدلي) الخاص به، ضمن شبكة علاقاته؛ فكل (حدث) هو (نتيجة) لما سبقه مرتبط به بشكل عضوي وهو في الوقت نفسه (سبب) لما سيأتي بعده، ينطبق هذا على علاقات التاريخ وتفاعلات الذرة وحركات المجرات، ولا يشذ عن هذا القانون، بل ويصدق عليه أكثر حدث (شمشون الجبار) الذي بين أيدينا؛ فالأدمغة اليهودية من أمثال (إرنست بيرغمان) و(بن غوريون) و(عاموس ديزحاليط) ولدوا وعاشوا في (الهولوكوست)، ولذا فذاكرتهم مشبعة بالرعب إلى مداه الأقصى، وحذرهم غير متناه، وشكهم في العالم ومن حولهم بدون حدود، بما فيه الغرب ممثلا بفرنسا التي بنت لهم مفاعل (ديمونا) ونظام الصواريخ، أو الولايات المتحدة التي غضت النظر ودعمت النشاط النووي الإسرائيلي (في إحدى مقابلات كيسنجر مع القادة الإسرائيليين قال لهم: «إن أمريكا غير عازمة على خوض حرب عالمية ثالثة، وإنها ثانيا لن تخاطر بشن حرب عالمية ثالثة من أجل إسرائيل، وثالثا يعرف الاتحاد السوفياتي ذلك» (يراجع في هذا كتاب سيمور هيرش «خيار شمشون»، مكتبة بيسان، ص 140). ففي مثل هذه الأجواء النفسية من الهلوسة العقلية والرعب الفظيع، يجب أن نتوقع كل شيء. وأكثر من هذا فحتى مشروع (مانهاتن) الذي انطلقت به الولايات المتحدة الأمريكية للتصنيع النووي، انطلق من (شبح) أن هتلر يُصنع السلاح النووي، وتبين بعد ذلك أن العلماء الألمان لم يكونوا قد خطوا في الطريق شيئا يذكر، على الرغم من بعض الكتابات التي تزعم ذلك (يراجع في هذا كتاب «سجناء العالم الذري» الذي يزعم مؤلفه وهو يحمل نفس اسم (أوبنهايمر)، الرأس العلمي للمشروع النووي في لوس آلاموس، باستثناء أن الاسم الأول لصاحبنا المزعوم (إيرفين) والحقيقي في مشروع (مانهاتن) هو (روبرت)، من أن الألمان أنتجوا ثلاث قنابل نووية وهي التي ألقيت على اليابان! ولم يثبت هذا تاريخيا).

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى