كيف هي الصورة ما بين 1996 و2016؟
واجه وزير الفلاحة الأسبق عبد العزيز مزيان بلفقيه تساؤلات صعبة. فقد وُضع على مكتبه تقرير صادم صدر عن «المرصد الجيوسياسي للمخدرات»، يتهم المغرب بأنه المرتع الخصب لتصدير الحشيش إلى بلدان الاتحاد الأوروبي. تضمن معطيات تحذر من وقوع البلاد تحت سطوة أباطرة المخدرات.
وباعتباره وزيرا للفلاحة، شارك في اجتماعات ماراطونية خصصت للبحث في خلفيات التقرير والرد عليها، من خلال إجراءات عملية يكون في وسعها إقناع الشركاء الأوروبيين بأنه إذا كان مستهلكوهم ضحايا استشراء الظاهرة، فالمغرب بدوره يعاني أكثر من مخلفاتها على اقتصادياته وأوضاعه الاجتماعية. ومنذ ذلك الحين زادت المخاوف من أن يتحول إلى ما يشبه الأوضاع المنفلتة في بعض بلدان أمريكا اللاتينية.
من الإنصاف التأكيد على أن مقولة محاولة استنساخ تجربة «كولومبيا» ترددت وقتذاك، ولم يتسبب الأمر في أي حرج دبلوماسي لا للمغرب ولا للدولة المعنية.. لأن المعطيات المتوافرة تفيد أن الواقع لا يرتفع بمجرد تجاهله أو عدم الإشارة إليه. فقد كانت التقارير الإعلامية والسياسية تتحدث عن «غزو» أباطرة المخدرات للمناطق التي توصف بأن رقابة الدولة عليها أقل تأثيرا وصرامة.
القليل يعرف أن من مضاعفات ذلك التقرير الذي أنجز بطلب ودعم من الاتحاد الأوروبي، أنه تم نقل الوزير بلفقيه إلى قطاع الأشغال العمومية الذي يعتبر البحر الذي كان يسبح فيه، منذ بدأ مساره مهندسا في القطاع في الأقاليم الجنوبية. وتعود تلك المناقلة إلى الربط بين خطة جديدة أقرها المغرب في التعاطي ورهان النهوض بالأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في المناطق الشمالية، همت ضمن معالمها العريضة التي لم يُكتب لها أن تنفذ، معاودة استصلاح الأراضي واستبدال زرع الحشيش بمنتوجات فلاحية تدر الدخل وتفك العزلة عن مساحات شاسعة من الجبال والأراضي ذات التضاريس القاسية، وإقامة السدود وجغرافيا المياه وإنعاش العالم القروي.
على الصعيد السياسي، تلقى الوزير الأول البريطاني جون ميجر، باعتبار أن بلاده كانت ترأس الاتحاد الأوروبي، تعهدات والتزامات السلطة السياسية، لناحية البحث في بناء تعاون استراتيجي بهذا الصدد، يقوم من خلاله الاتحاد الأوروبي بتمويل ودعم الخطة المغربية. ومحورها مساعدة السكان في استبدال زراعة القنب الهندي، والحيلولة دون تسلل أباطرة المخدرات إلى الحقل السياسي، والمساعدة في إنجاز مشاريع إنمائية تروم تغيير وجه المناطق الشمالية التي عانت الكثير من التهميش.
بينما انصرف الشق السياسي إلى وضع قوائم مشتبه في أصحابها بالضلوع في تجارة المخدرات، تحظر عليهم الترشح للانتخابات. ثم تطور الأمر إلى ما عرف بـ«حملة التطهير» التي شابتها خروقات وتجاوزات. وكان وزير العدل آنذاك عبد الرحمن أمالو بشر خزينة الدولة بموارد مالية لم تكن في الحسبان. وخُيل للمغاربة أن ما بعد التطهير سيكون ازدهارا وانتعاشا لا عهد لهم به.. لولا أن النتائج خالفت الوعود والتوقعات.
لا تكون البدايات في مثل النهايات، فقد انبرت فرنسا نحو اتخاذ قرار يفضي إلى الإفادة من قروض مستحقة على المغرب لإنجاز مشاريع تنموية، ودخلت إسبانيا على الخط، عبر تقديم وعود مماثلة بتحويل جزء من الديون إلى مساعدات واستثمارات، وكان رد فعل عواصم أوروبية أخرى متأرجحا بين تشجيع جهود المغرب في هذا الاتجاه والإغداق في الوعود، لكن من دون أن يتحقق ذلك على أرض الواقع. فقبل أن تظهر توليفة الدول المانحة التي تتحدث عن الإعمار والبناء والنهوض بأوضاع السكان، كانت بلدان الاتحاد الأوروبي سباقة إلى هذا الأسلوب الذي سرعان ما تراجع أمام الطلبات المشفوعة بالأرقام والاستحقاقات.
سقط في يد المغاربة، وتحديدا أولئك الذين اعتقدوا أن مياه الدعم والمساعدة ستتدفق، بالقدر الذي يحبسون فيه حنفيات «المال الحرام». وعندما شرع المسؤولون في احتساب غنائم الحملة، كان الاقتصاد وعلاقات الثقة تعرضا للاهتزاز، وربما غاب عنهم أن كلمة التهريب التي كانت المفتاح لا يوازيها في اللغة السياسية مفهوم «الترهيب». وكل ما هو مبدئي ومشروع في مواجهة ظاهرة التهريب التي تشمل البضائع والمنتوجات، والتهرب الضريبي وحماية أشكال المنافسة الحرة، لا يصبح كذلك عند استبدال الأداة التي تعني شيئا واحدا، أي سيادة القانون الذي يضع الناس سواسية في الحقوق والواجبات.
منذ حوالي عشرين عاما عاش المغرب على وقع تلك الأحداث، في جانبها المتعلق بمحور التفاهمات الغامضة مع بلدان الاتحاد الأوروبي، وفي بعدها الداخلي الذي ترك ندوبا غائرة، من دون أن يفلح في تضميدها بمسكنات تدفع إلى دخول الرأسمال النظيف سوق المنافسة والقناعة. وبقي من حروفها أن المغرب انضم إلى مجموعة «تريفي» المعنية بالحرب على المخدرات والجريمة المنظمة كعضو مراقب.
تتعدد القراءات والاستنتاجات حيال أفضل السبل الممكنة لتحقيق إدماج موضوعي للمناطق الشمالية في مشروع التنمية. ومن محاسن التطورات اللاحقة، أنها تنبهت إلى أوضاع المناطق الشمالية في البلاد. إلا أن تقارير التصنيفات لم تتغير على قدر النوايا والأعمال. ولا تزال مهمة إسقاط الشوائب التي تسيء إلى صورة البلاد مسؤولية وطنية بامتياز. وليس أفضل من خوض المعارك في توقيتها وميدانها، عبر الأسلحة التي تضمن نصف النصر، والباقي متروك للإرادات والعزائم.
ليس العام 1996 وما سبقه من إرهاصات مثل العام 2016. وما حلمت أجيال بمقدم الثمانينيات ثم الألفية الثالثة، إلا لكونها توقعت أن تكون أفضل.