كلينتون يشرب ماء على قارعة الطريق
ما يفعل رئيس دولة عظمى إذا ألم به العطش؟ منطقيا يبدو الافتراض مستبعدا، لأنه لن يكون في رحلة صحراوية بعيدا عن الواحات. وإذا كان من هواة قنص الصقور، فإن مرافقيه يقتفون أثر مستلزمات الرحلة، بمائها وطعامها وخيامها التي تحجب الحرارة، كما أنه لن يكون في أي مكان للترفيه وتزجية الوقت، ينعدم فيه الماء.
وعلَّمنا الرؤساء الأمريكيون أنهم يزورون مواقع قواتهم المنتشرة في أرجاء العالم، وفق تقاليد تنطبع بالسرية، خصوصا عندما تكون إلى مناطق الحروب والمواجهات العسكرية المحتدمة. وثمة بند في حيثيات التجهيزات لا يشمل المعدات المتطورة في عالم الاكتشافات التكنولوجية فحسب، بل قوارير المياه والعلكة التي تلوكها الأفواه. ولا يمكن والحالة هذه للقائد الأعلى في أركان الجيوش أن يعتريه جوع أو ظمأ.
عادة يعترض رجال البرتوكول والحراسة وطهاة المطابخ الرسمية على أي شيء يرونه مفتقدا لشروط الملاءمة. فالقادة الذين يسافرون على متن الطائرات الأكثر تجهيزا بأسباب الراحة وإمكانات الاتصالات عن بعد، يعلمون مسبقا أن متطلبات الرحلات الطويلة أو القصيرة لن تغفل عن أي شيء، بما في ذلك حبات الأسبرين أو مثيلاتها التي لا تحدث وجعا لمن يشكو من حساسية ما. والذين يهوون السفر على متن البواخر واليخوت الفاخرة، لا يخامرهم شك في أنها تتوفر على أرقى الخدمات في أفخم الفنادق فوق المصنفة.. بما في ذلك مكاتب العمل وأسرة النوم وحمامات السباحة، فبالأحرى أن يفكروا في البحث عن جرعة ماء.
ماذا حدا بكل هؤلاء المهتمين بأدق التفاصيل أن يتركوا رئيس أكبر دولة في العالم، يلتفت حوله بحثا عن الماء؟ المناسبة حزينة، لكنها أبانت عن درجة عالية من القدرات التنظيمية التي لا تتوفر إلا للدول ذات الرصيد الغني في هكذا تقاليد وممارسات. والأرجح أن يظل المشهد عالقا بذهن وذكريات الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلينتون الذي واجه الموقف بثقة كبيرة، تخطت حدود المحظور أو المشكوك فيه على وجه الاحتياط. ولن أنهي الحكاية دون ذكر وقائع الحدث الذي جرى في قلب العاصمة الرباط ذات مساء حزين.
مهلا إذن، فالرواة يحبكون الوقائع على قدر ما يثير الاهتمام، ومن سمات السرد الشفوي في «الأزلية» والحكايات الشعبية التي تعرض لخوارق أسطورية تشبع نهم الذاكرة التواقة إلى غرائب الأشياء، أن رواتها يأخذون فترات الراحة على إيقاع التشويق.
إذا قيل لرئيس دولة مثلا إنه سيكون عليه أن يقطع حوالي خمسة كيلومترات وستمائة متر، مشيا على الأقدام.. لا شك في أن مساعديه سيتدبرون أمر قطع هذه المسافة في ظروف ملائمة، بما لا يعيق السير على الأقدام. فهي أقل بعض الشيء من نزهة عند مسالك الغولف، ولابد أن يكون المشي عبرها مريحا. أقله من دون ارتداء البدلات وربطات العنق والأحذية اللامعة. فلكل طريق آدابها، وقديما قيل إن من آداب السير في الطرقات إلقاء السلام ورد التحية.
ولا غرو في أن القادة يلقون بالتحية عبر التلويح بأياديهم، وإذا كانت المناسبة أليمة لا تحتمل ذلك، فإنهم يطرقون برؤوسهم نحو الأرض التي يخطون فوقها. أما في حال فرض على رئيس الدولة الزائر، لسبب أو لآخر، أن يحتفظ بهندامه الرسمي وينغمر إلى جانب جموع غفيرة لا يحدها البصر، فثمة إجراءات احترازية تؤخذ على وجه الاستعجال.. ليس أبعدها دراسة التوقيت والفضاء. إذا كان السير مثلا سيتم في فصل شتاء ممطر، فإن المظلات تكون بالمرصاد لهطل الأمطار، وإذا كان الفصل صيفا فالسير فيه له طقوسه المختلفة.
ما من شيء يستقطب الاهتمام في رحلات كبار المسؤولين أكثر من معرفة أحوال الطقس. إذ سيكون من المثير أن يأتي قائد من منطقة باردة، مدثرا بمعطفه وقلنسوته، بينما يكون الطقس حارا في البلد المضيف، وعكس ذلك في الاتجاه الآخر. وهناك بعض الأحداث ذات الطابع الخاص المؤثر، تفرض نفسها، فيتراجع أمامها منسوب الإجراءات البروتوكولية، من دون أن يخفت نهائيا. وحين شاهدت الرئيس الفرنسي الأسبق فرانسوا ميتران يتناول غداءه رفقة أصدقائه في مطعم فرنسي، من دون حراسة، نبهني صديق إلى رجال أشداء أخذوا مكانهم خارج المطعم. لكن الذهاب إلى مطعم ليس مثل المشي على الأقدام، خصوصا في يوم مشهود بحرارة المشاعر والطقس.
في الثالث والعشرين من يوليوز 1999، غيب الموت الملك الراحل الحسن الثاني في مستشفى ابن سينا في الرباط. حرص زعماء العالم على حضور مراسم الدفن وتشييع جنازته إلى مثواه الأخير. سار زعماء العالم مسافة تزيد عن خمسة كيلومترات مشيا على الأقدام من المشور السعيد إلى ضريح محمد الخامس. على جنبات الطريق احتشدت جماهير غفيرة، كان الموسم صيفا، ولم يجد الرئيس الأمريكي بيل كلينتون الذي اشتد به العطش بدا من الإفصاح عن رغبته.
لم يكن مرافقوه إلى جانب الحشد الكبير من قادة العالم يحملون قوارير ماء. فجأة انتبه أحدهم إلى وجود محطة وقود قبل الوصول إلى الضريح، أخذ منها قارورة ماء وسلمها إلى الرئيس الأمريكي الذي صبها في جوفه. وقيل إنها المرة الأولى التي يشرب فيها ماء من دون التأكد من تركيبته، كما هي العادة. ثم أفصح في وقت لاحق أنه لم يشهد مثيلا لانضباط الشعب المغربي في وداع ملكه الراحل.