«كلمة السر»
عندما يعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في مؤتمره الصحافي المشترك مع أردوغان والذي عقده الثلاثاء في ختام مباحثاتهما في مدينة سانت بطرسبرغ أن «أهداف روسيا وتركيا في سوريا متطابقة»، ويرد عليه ضيفه التركي رجب طيب أردوغان: سنفتح صفحة جديدة في العلاقات بين البلدين وستسهم بقسط كبير في حل العديد من قضايا المنطقة» في إشارة إلى سوريا، فإن هذا يعني أن المصالحة بين البلدين اكتملت تقريبا أو كادت، وأن تغييرا كبيرا، وربما جذريا سيطرأ على العلاقات الأمريكية التركية في الأسابيع والأشهر المقبلة.
«كلمتا سر» أديتا إلى هذا الاختراق الكبير، الأولى «فتح الله غولن» وانقلابه العسكري، والثانية الاعتذار التركي الواضح والصريح الذي قدمه الرئيس أردوغان إلى نظيره الروسي في رسالة حملها مبعوث تركي إلى موسكو بعد نجاح وساطة قام بها رجل الأعمال، والوزير التركي السابق جاويد جاغلار، والرئيس الكازاخستاني نور سلطان نزار باييف، ورتبا لقاءات سرية بين الجانبين الروسي والتركي في طشقند.
بعد هذا «الاعتذار» المكتوب وباللغة الروسية (إيزفينيتي)، بدلا من الكلمتين Sorry أو apologize باللغة الانكليزية، حدث التحول السياسي والعاطفي الأكبر، وفي الوقت المناسب جدا، وتعزز عندما كان الرئيس بوتين من أوائل المتصلين بنظيره التركي هاتفيا مطمئنا عليه ومهنئا بفشل الانقلاب العسكري، وسط أنباء عن قيام مخابرات الروس بتقديم معلومات مسبقة للرئيس التركي عن تفاصيل الانقلاب العسكري عبر قاعدتهم الجوية المتقدمة في طرطوس.
الرئيس أردوغان وصف هذا الاتصال بأنه «أسره مثلما أسر المسؤولين والشعب التركي أيضا»، وكرر أكثر من مرة مخاطبه الرئيس «فلاديمير» بالصديق، ووجه لوما كبيرا للقادة الأمريكان والأوروبيين، بل والحلفاء العرب، لأنهم لم يقدموا على مبادرة مماثلة.
الأتراك عاطفيون مثل العرب، ولكنهم على عكسهم، يعرفون كيف يوظفون هذه العاطفة، على شكل دبلوماسية براغماتية فاعلة تضع مصالح بلادهم فوق كل اعتبار، فالعناد ممكن أن يُكسر، والغرور يمكن أن يتواضع، وكل هذا وغيره يحدث في اللحظة المناسبة.
انقلاب فتح الله غولن، وبغض النظر عما إذا كان حقيقيا أو غير حقيقي، أو كان الداعية المقيم في أمريكا خلفه أم لا، جاء في الوقت الملائم لحدوث الانقلاب الكبير في موقف الرئيس أردوغان وفرصه لتغيير سياساته في ملفات عديدة، أبرزها علاقاته مع أوروبا وأمريكا، والأزمة السورية خاصة، والانفتاح كليا، ودون قيود نحو «الجار» الروسي.
هناك ثلاث أزمات رئيسية تواجه الرئيس أردوغان وحكمه في الوقت الراهن، الأولى ترتيب البيت الداخلي التركي بجوانبه الأمنية والعسكرية، وبدأت عملية تطهير جذرية في الجيش والمؤسسة الأمنية، وبما يعزز سيطرة الحزب الكامل وقبضته الحديدية على الدولة، والثانية اقتصادية نتيجة تدهور العلاقات التجارية مع روسيا وأوروبا، والثالثة ملف الإرهاب وتفجيراته في العمق التركي سواء من قبل «الدولة الاسلامية»، أو المتمردين الأكراد، ودوره في زعزعة أمن البلاد واستقرارها، وانعكاس كل هذا على اقتصاد البلاد ونموها.
الرئيس بوتين تعهد في المؤتمر الصحافي المشترك «بأن تركيا وروسيا ستعاودان استهداف الوصول بحجم التجارة الثنائية إلى 100 مليار دولار سنويا»، والمضي قدما في «مشروع بناء خط أنابيب نقل الغاز (السيل التركي) أو «تورك ستريم» الواصل من روسيا إلى تركيا، ومن الأخيرة إلى أوروبا»، وهذا يعني الاسهام بشكل كبير في حل أو تخفيف حدة الأزمة الاقتصادية التركية، وكذلك على صعيد ملف الارهاب، فالتقارب مع روسيا سيساعد بشكل كبير في هذا الصدد إذا وضعنا في عين الاعتبار العلاقات الروسية العميقة جدا مع حزب العمال الكردستاني، وحلفائه في سورية.
من الصعب علينا التكهن بما توصل إليه الرجلان، أي بوتين وأردوغان، من اتفاقات وتفاهمات حول كيفية حل الأزمة السورية، فلم نكن، ولا غيرنا، في الاجتماع المغلق الذي استغرق ساعتين بين الرئيسين على انفراد، قبل أن ينضم إليهما أعضاء الوفدين الرسميين، ولكن ما يمكن استنتاجه، ومن خلال قراءة ما بين سطور ما ورد في المؤتمر الصحافي المشترك، خاصة ما قاله بوتين، ونحن ننقل هنا حرفيا: «أكد الرئيسيان عزمهما التوصل إلى تفاهم مشترك للتسوية في سورية»، وأضاف «إننا ننطلق من استحالة التوصل إلى تحولات ديمقراطية إلا بالوسائل الديمقراطية»، أي لا مكان للخيار العسكري، وأشار إلى أن «هناك خططا لعقد لقاء منفصل بمشاركة وزيري خارجية البلدين وممثلي الاستخبارات لبحث التسوية في سورية».
كان لافتا بالنسبة إلينا على الأقل، عدة أمور، أولها أن الحكومة السورية لم توجه أي اتهام لتركيا بالوقوف خلف الهجوم الكبير لقوات فصائل المعارضة السورية المسلحة لكسر الحصار على شرق حلب، رغم أن أطنان الأسلحة الحديثة القادمة من السعودية وقطر مرت عبر الأراضي التركية، وربما يكون هذا الصمت بإيعاز من موسكو، ووجود حالة من «الفتور» في تغطية القنوات السعودية، و«العربية» خاصة لزيارة الرئيس أردوغان لروسيا.
شخصيا لو كنت في مكان المعارضة السورية، وبالذات وفد الرياض، والائتلاف الوطني السوري لشعرت بالقلق، رغم التصريحات التي نسبت إلى السيد أنس العبدة، رئيس الائتلاف وقال فيها إنه تلقى ضمانات من الحلفاء الأتراك بأن موقفهم تجاههم، والأزمة السورية، لن يتغير بفعل التقارب التركي الروسي.
زيارة الرئيس أردوغان لموسكو ستخلط كل الأوراق خاصة في الأزمة السورية، وقد تنقل أمريكا وحلف الناتو من خانة أصدقاء تركيا إلى معسكر الأعداء، أو غير الأصدقاء على الأقل، وقد تفتح قنوات حوار بين أنقرة ودمشق بوساطة روسية.. والأيام بيننا.