شوف تشوف

الرأي

كل إناء بالذي فيه يرشح

دلف زعيم «التقدم والاشتراكية» علي يعتة إلى بناية البرلمان، شوهد وهو يخطو رفقة وزير المالية محمد برادة، الذي كان في طريقه لعرض الموازنة المالية. فعلق بعضهم بأن الرأسمالية تتمسح بلباس الشيوعية، أو أن الشيوعية تقتحم مجاهل الأعداء اللدودين.
لا هذا ولا ذاك، فالنائب أي نائب، لا يكون خصما للوزير، أي وزير، إلا في المواقف والسياسات، وفي العلاقات الشخصية هناك متسع للصداقات، إن تركنا جانبا ضرورات التحالفات. ولا يمكن لنائب واحد أن يكون ضد الجميع بلا سند ولا صداقات.
كانت برزت دعوات في إسبانيا اتخذت من «النيو شيوعية» نظرية جديدة في الانفتاح، سبقت الموجة الإصلاحية التي قادها الزعيم السوفياتي ميخائيل غورباتشوف في بلاده. على يعتة لم يفوت الفرصة، كان يتدثر بنوع من السذاجة الذكية التي يعتقد البعض أنه أوقعه في حبالها، وسرعان ما ينزع تلك العباءة، ويبدو كما هو في طبعه وتطبعه مناضلا صبورا يغير الأسلوب ولا يهمل المرجعية.
انحنى يعتة برأسه كأنه لم يسمع، والآخرون لم يتفوهوا. فقد كان ذا ميزة نادرة من معدن أصيل. ينتظر الفرصة ولا يهرول في اتجاه الرد على الانتقادات التي يستشعرها، أو تلك التي يتوقعها. إنما «الانتقام» في الأعراف السياسية يأتي ساخنا في العبارات والإحالات.
قال يعتة في مداخلة شهيرة أمام البرلمان: «إننا لا ندين الحكومة في رجالاتها، ولكن ندينها في سياستها»، وأضاف: «نريد أن نجعل حدا لهذه السياسة. أما الرجال فنكن لهم الاحترام والتقدير والصداقة أحيانا». فهم كثيرون أن السياسة لا تفسد للصداقة مودة، وأن حدودها تتوزع بين ما هو شخصي وعام. ففي الأعراس والمآتم يلتقي المعارضون والموالون على موائد واحدة، وعندما يحين الأمر يفترقون، كما الأبيض والأسود، وإن كان اللون الرمادي يتم التعبير عنه بالوفاق أو التوافق.
البعض يرى في الوفاق منهجية، والبعض يعتقد أنه ينزع من صراع الأفكار والمواقف روحه المبنية على الاختلاف الذي قيل فيه منذ الأزل إنه رحمة. وما لا يُدرك كله لا يُنقض بعضه. وفي المثل الشعبي أن المعاشرة لابد أن تكون على حساب طرف دون آخر.
هذه الظاهرة ستثير حفيظة الراصدين لتطورات المشهد السياسي في البلاد. وإذا كانت الخصومات بين الفرقاء راكمت قدرا كبيرا من أساليب الهجاء التي انفرد بها الشعر العربي واللسان العربي، فإن القدرة على التناسي جعلت من ضعف الذاكرة قيمة أبقت على الثقة في المستقبل. إذ لا يلتفت الفرقاء إلى معارك الماضي، إلا بالقدر الذي يتركون الأحكام للتاريخ «غير المفترى عليه».
من الأمثلة الدالة على ذلك أن رئيس الكتلة النيابية للاتحاد الوطني للقوات الشعبية عبد اللطيف بن جلون، قال كلاما قاسيا وجارحا، ضد وزير الداخلية آنذاك عبد الرحمن الخطيب تحت قبة البرلمان. فقد تبارز معه سلاح الوطنية ونقيضها، إلى درجة كان في وسع أي وكيل للملك أن يفتح تحقيقا بالاتهامات المتبادلة، في غضون ذلك سيكون عبد اللطيف بن جلون أول من يهنئ الدكتور عبد الكريم الخطيب، شقيق وزير الداخلية، على موقفه المناهض لفرض حالة الاستثناء عام 1965.
من نماذج الترفع والتسامح أن زعيم حزب الاستقلال علال الفاسي تعرض لحملة جارحة في الصحافة الفرنسية، على خلفية صدور نداء القاهرة. فقد عمد أحدهم إلى رفع شعار البراءة مما قاله. وحين أصبح يتحمل مسؤولية في الديوان الملكي مباشرة بعد نيل البلاد استقلالها، نصح علال الفاسي قياديين في حزبه بالتعامل معه باحترام وتقدير. وقال إن موقفه السالف، إنما كان لمجاراة الضغوط الاستعمارية. وأبدى تفهما بدوافع اصطفاف اعتبره عابرا أو متجاوزا. والواقع أن الصراع الحزبي عرف ذروة التأزم والتراشق بين الاتحاديين والاستقلاليين منذ حادث الانفصال الذي خلف جروحا غائرة. وعندما التقى قياديو الحزبين، بالإضافة إلى «الاتحاد المغربي للشغل» في الطبعة الأولى للكتلة الوطنية، صرح علال الفاسي بأن الخطوة «زواج كاثوليكي» يُحظر فيه الطلاق.
غير بعيد عن ضفاف الالتهابات والحساسيات الحزبية، قال قياديون سابقون في «الحركة الشعبية» أقصى أنواع «القذف» في حق الزعيم المحجوبي أحرضان الذي أزيح عن الواجهة ذات مؤتمر استضافه مسرح محمد الخامس في الرباط. وبعد اجتيازه صحاري الإبعاد رسميا وحزبيا، سيتمكن رفاق أحرضان من إصلاح ذات البين ليعود المحجوبي إلى الخيمة التي أرسى عمادها رفقة صديقه عبد الكريم الخطيب. ولا تزال هذه الخيمة تفرخ الحركات والنزعات، كما لو أنها كانت مشتلا حقيقيا تتفرع عنه الدكاكين الحركية، ولسان حالها يقول: هل من مزيد؟
أختم باستشهاد مأثور للزعيم عبد الخالق الطريس الذي كان صوته يجلجل في البرلمان والتجمعات الشعبية ومنتديات الفكر والحوار. فقد ردد وزراء في برلمان المرحلة أنهم ينفذون سياسة وتوجيهات الملك الراحل الحسن الثاني. وبادر الطريس إلى نزع هذا الرداء قائلا: «إن إقحام اسم الملك في خدماتنا السياسية، يكاد يُشعر بأنه يوجد من بين المغاربة من يقف موقف تشكك من النظام، وهذه مسألة لا وجود لها».
وعاب على النواب والوزراء استعمال انتقادات غير لائقة بصورة وسمعة المؤسسة التشريعية. أضاف «سواء كان هذا المجلس مشروعا في نظر البعض أو غير مشروع بنظر آخرين، فلا أقل من الارتقاء بمستوى النقاش». لكن أهمية كلامه أنه قيل منذ أكثر من أربعين سنة.
وسارت السياسة برموزها ونماذجها، وكل إناء بالذي فيه يرشح.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى