شوف تشوف

الرأيالرئيسيةمجتمع

«كراكاج» في سماء المدينة

 

مقالات ذات صلة

حسن البصري

في أدبيات ملاعب الكرة تعني كلمة «كراكاج»، لحظة إطلاق جماعي للشهب النارية في ظرفية زمنية متفق عليها سلفا بالدقيقة والثانية، حيث يعلن قائد الفيلق المشجع عن موعد إشعال المدرجات بـ«الفيميجان»، إيذانا بانطلاق احتفالية برائحة الدخان، ومهما خلفت المفرقعات من أضرار مادية وبشرية، فلا تكتمل الفرجة في مدرجات الملاعب حتى يراق على جوانبها البارود.

كانت ليلة عاشوراء مناورة حقيقية لجماهير الكرة، استعملت فيها ما تبقى من عتاد وذخيرة وبقايا مخزون الشهب النارية غير المستعملة، بسبب قرارات «الويكلو»، بغاية استخدامها قبل أن يطالها الكساد، بعد قرار إجراء بعض المباريات دون جمهور.

تحولت أحياء مدننا إلى مساحة مستقطعة من مدرجات الملاعب، بعد أن اشتعلت الأزقة وساد الرعب واستوطن الخوف وانتشرت رائحة البارود، في ليلة عاشوراء داهمت المصالح الأمنية شبكات كانت مختصة في تزويد جمهور الملاعب الرياضية وكرة القدم على الخصوص بالشهب النارية، وتم تفكيك البؤر التي كانت تغرق سوق الكرة بالمفرقعات، لكن أولئك الذين خططوا لإشعال الشوارع والأزقة، هربوا المخزون واستعانوا بخبراء المدرجات ضمانا لليلة مشتعلة.

في ليلة عاشوراء انسحبت أهازيج من زمن مضى، اختفت موشحات «عيشوري عيشوري دليت عليك شعوري»، وحلت محلها أغاني مدرجات الملاعب، وغالبا ما ناب الدخان وصوت المفرقعات عن كل الأشعار.

تبدأ النكبة بالأثمان التي يدفعها الأطفال في مثل هذه النزاعات الحارقة، أو التعرض المباشر لإصابات خطيرة، بل يستخدمون أيضا كدروع بشرية في عملية تصفية حسابات أو أدوات تسويق ودعاية لأفكار بعض الكيانات الكروية المتنازعة، في أكثر المشاهد الاحتفالية دموية والتي لم يسلم منها رجال الأمن والمسعفون.

لا فرق بين عاشوراء والمباريات الكروية ذات عالية الاحتقان، في الحالتين معا متفجرات وشهب نارية ودخان واستنفار أمني، يغيب اللاعبون والحكام و«التيفو» وتحضر كل أشكال الهلع. قبل مباراة عاشوراء، تحذر جمعيات حماية المستهلكين في بياناتها السنوية من خطر المفرقعات وتنصرف إلى حالها.

في ليلة عاشوراء كما في «فيراجات» الملاعب يحضر «الكابو» بكاريزماه المعهودة، ليستعيد وظيفته التي كاد أن ينسى ضوابطها بسبب العطلة الرياضية، وغالبا ما يسند مهمة الإشراف على «الكراكاج» المدني ليافع في طور التدريب، ينسق كعادته بين الفصائل ويمسك بخيوط اللعبة كي لا تنفلت منه، يعطي آخر الوصايا، ثم ينسحب من ساحة الوغى، وأحيانا يتقمص دور «العلام»، حين يكون على رأس «سربة خيول».

تحولت ليلة عاشوراء إلى فرصة سنوية لوضع الشارع العام رهينة تحت رحمة نيران صديقة، فهي لا تمت بصلة لرمزية الحدث، ولا تهتم بدائرة الإيمان الديني أو الانتماء الطائفي، بل هي في نظر جماهير الكرة اختبار موحد لمدى جاهزية المشجعين للعودة إلى أجواء الملاعب.

في ليلة عاشوراء عادت أهازيج الملاعب، وحمل الشباب قمصان فرقهم واستعانوا بما حفظوه من دروس «الإلتراس» في احتفاليتهم، قضى المواطنون ليلة بيضاء استنشقوا فيها رائحة الدخان، وعلى منصات التواصل الاجتماعي نقل محترفو «الكراكاج» صورا لليلة ظلماء افتقد فيها البدر.

في غمرة السجال القائم بين الجماهير، كان لا بد من التباهي بحجم الذخيرة التي يملكها كل فصيل، في ليلة مناورة استعراض القوة، البعض يتباهى بامتلاك قنابل متطورة تثير فزع الخصوم، والبعض يتفاخر بترسانة من الذخيرة مستوردة من الخارج.

في عاشوراء ترددت أسماء المتفجرات المستعملة، خاصة المحظورة والتي تمت تجربتها بنجاح في «فيراجات» الملاعب، أكثرها رعبا «قنبولة حفتر» و«الفيميجان الطائر»، في انتظار استخدام تقنية الدرون.

يأتي عاشوراء في كل عام وهو يتأبط حزنا مزدوجا، يدرك الجميع أن الصخب السنوي يتجدد مهما كانت الظروف، في عاشوراء لا احتفال عن بعد، ولا اعتراف إلا بالمشاركة الحضورية ولو باستشارة، ففي غرفة العمليات كل فكرة بدعة وكل بدعة ضلالة.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى