شوف تشوف

الرئيسيةثقافة وفن

كتابات أدبية بصيغة المؤنث

إعداد وتقديم: سعيد الباز

برز مصطلح الكتابة النسائية إلى الوجود للإشارة إلى نمط من الكتابة يعنى بقضية المرأة ويتخذها موضوعا له. ورغم الجدال الدائر حول هذا المفهوم والذي يتأرجح بين القبول والرفض، فإن وفرة الكتابات النسائية، أو ما يدخل في خانة هذا النوع، على المستوى الفكري أو الأدبي والإبداعي الصرف، وتناميها المضطرد لدليل قوي على أهميتها في المشهد الثقافي العام. إنّ الحديث عن الكتابة النسائية لا يمكن أن يتجاوز محطة أساسية تمثلت بالخصوص في الكاتبة الفرنسية سيمون دو بوفوار (1908-1986) Simone de Beauvoir وهي مفكرة وكاتبة وناشطة حقوقية في المجال النسائي على الخصوص، حيث يعتبر كتابها «الجنس الآخر» نصا تأسيسيا بالنسبة لجل الحركات النسائية. في هذا الكتاب بيّنت سيمون دو بوفوار كيف تمّ اعتبار المرأة دائما جنسا آخر، والرجل هو الجوهر والممثل الحقيقي للإنسانية.

وقبل ذلك، كان للكاتبة الإنكليزية فرجينيا وولف (1882-1941) Virginia Woolf الدور الكبير في إبراز أهمية الكتابة الأدبية من زاوية نسائية تستلزم شروطا أساسية من أجل تحققها. فرجينيا وولف إحدى العلامات الكبرى في الرواية العالمية ومن مؤسسي «تيار الوعي» في الكتابة الروائية، يعتبر كتابها «غرفة تخصّ المرء وحده» الذي كان في الأصل عبارة عن محاضرات ألقتها تباعا على جمهور من الطالبات، أشهر أعمالها على الإطلاق. حيث سيتحول إلى ما يشبه البيان للحركات النسائية عبر العالم تناولت فيه بشكل عام ضرورة استقلالية المرأة ماديا ومعنويا كشرط أساسي لحريتها، وعلى الخصوص وضع المرأة الكاتبة الذي لخصته في عبارتها الشهيرة: «إنّ النساء لكي يكتبن في حاجة إلى دخل ماديّ خاص بهن، وإلى غرفة مستقلة ينعزلن فيها للكتابة».

في حين تعدّ الكاتبة المغربية فاطمة المرنيسي (1940-2015) رائدة في هذا المجال، خاصة في سلسلة من كتبها حيث تناولت بالدراسة وضعية المرأة المغربية من زاوية سوسيولوجية وعملت على تحليل البنية التقليدية في المجتمع المغربي في ارتباطها بالتحولات وآثار كل ذلك على وضعية المرأة المغربية. في روايتها الجميلة ذات الطابع سير ذاتي «نساء على أجنحة الحلم» تبرز كيف يتم خلق حدود وهمية في بلد واحد وبين عالم الرجال والنساء. الكاتبة المصرية ذات الحس السجالي القوي نوال السعداوي (1931-2021) تختصر في كتابها الشهير «الأنثى هي الأصل» المبادئ الأساسية لتحرر المرأة في المجتمعات العربية.

على المستوى الإبداعي كان لرواية «عام الفيل» للكاتبة المغربية ليلى أبو زيد الدور المهم في الكشف عن التحولات التي عرفها المغرب ما بين مرحلة الاستعمار والاستقلال وأثرها على وضعية المرأة.

رواية «أنا أحيا» للكاتبة اللبنانية ليلى بعلبكي تقدم لنا تجربة فتاة من الجنوب اللبناني هي لينا فياض المتمردة على المجتمع التقليدي من الأسرة إلى الجامعة منددة بالقيم المحافظة بجرأة وقسوة أحيانا. لطيفة الزيات الكاتبة المصرية (1923-1996) ومن رائدات الأدب والعمل النسائيين في رواية «الباب المفتوح» التي تقول عنها الكاتبة رضوى عاشور: «كتبت «الباب المفتوح» في كل نصوصها ففتحت الباب لأجيال من الكاتبات ينتسبن إليها ويواصلن الطريق». وفي الختام أتت كتابات المغربية مليكة مستظرف (1969-2006) من رحم المعاناة من المرض الذي أودى بها مبكرا، تميّزت في معظم كتاباتها، بحدة التعبير ونبرة احتجاج قوية ضد الوضعية المزرية التي تعيشها بعض الفئات في المجتمع خاصة النساء.

 

 

سيمون دو بوفوار.. الجنس الآخر

ترددت طويلا قبل أن أقدم على تأليف كتاب حول المرأة، صحيح أنّ الموضوع مثير، خاصّة بالنسبة للنساء، إلّا أنّه ليس بالجديد.

وعلى كلّ حال، هل هناك مشكلة؟ وما هي؟ بل هل هناك نساء؟ يقال لنا: «الأنوثة في خطر» ويحثوننا قائلين: «كنّ نساء… ابقين نساء». فكأنّما كل كائن إنساني مؤنث ليس امرأة بالضرورة بل ينبغي له أن يساهم بهذا الواقع الخفي الذي هو الأنوثة. وهل تتكفل المبيضات بإفراز الأنوثة أم أنّ هذه تكمن في سماء أفلاطونية؟

في عهد القديس توماس كانت المرأة تبدو كجوهر تحدد خصائصه كما تحدد خصائص ومزايا نبات الخشخاش. إلّا أنّ هذا المذهب الفكري فقد من نفوذه لأنّ العلوم البيولوجية والاجتماعية لم تعد تقرّ بوجود جوهر جامد ثابت يحدد نماذج معيّنة كالمرأة واليهودي والزنجي.

إنّ موقف التحدي الذي تقفه النساء الأمريكيات يثبت أنّ شعور الأنوثة يطغى عليهن. والحقيقة أنه يكفي إلقاء نظرة للتأكد من أنّ الإنسانية تنقسم إلى فئتين تتمايزان باللباس والوجه والجسم والابتسامة والمشي والاهتمام والمشاغل تمايزا واضحا، وقد تكون هذه الفوارق سطحية وذاهبة إلى الزوال. إنّما الأكيد أنها موجودة في الوقت الحالي بكل وضوح.

إذا كانت الأنوثة وحدها لا تكفي لتعريف المرأة، ورفضنا أيضا أن نفسرها بمفهوم «المرأة الخالدة» وبالتالي إذا كنّا نسلم، ولو بصورة مؤقتة، أنّ هناك نساء على الأرض، فعلينا أن نتساءل ما هي المرأة؟

إنّ الرجل يعتبر جسمه كما لو كان كائنا مستقلا يتصل مع العالم اتصالا حرّا خاضعا لإرادته هو… بينما يعتبر جسم المرأة شيئا حافلا بالقيود التي تعرقل حركة صاحبته. ألم يقل أفلاطون: «الأنثى هي أنثى بسبب نقص في الصفات» !

إنّ الإنسانية في عرف الرجل شيء مذكر فهو يعتبر نفسه يمثل الجنس الإنساني الحقيقي… أمّا المرأة فهي في عرفه تمثل الجنس «الآخر».

والسؤال الذي يفرض نفسه هنا هو: كيف تمكّن أحد الجنسين فقط من فرض نفسه كجوهر وحيد، منكرا وجود كلّ نسبةٍ تربطه بالجنس الآخر، معرّفا إياه بأنّه الآخر الصرف. ومن أين أتى للمرأة هذا الرضوخ؟

هناك حالات أخرى ترينا تمكّن فئة من التحكّم بفئة أخرى خلال فترة من الزمن. كان هذا الامتياز ناجما في الغالب عن تمايز العدد فتفرض الأكثرية قانونها على الأقلية وتضطهدها. إلّا أنّ النساء لسن أقلية، فضلا عن أنّ هذا التسلط له بداية تاريخية معروفة. فمثلا لم يكن هناك بروليتاريا مضطهدة على حين كان هناك دائما نساء. إنّهن نساء بتكوينهن الفيزيولوجي. ومهما أوغلنا في التاريخ القديم نرى النساء ملحقات بالرجال. هذه التبعية ليست نتيجة حادث تاريخي وليست بالأمر الطارئ مما يجعل من المرأة الجنس الآخر بصورة مطلقة.

إنّ نضال المرأة لم يكن قطّ إلّا نضالا رمزيا. ولم تفز إلّا بما أراد الرجل التنازل عنه. لم تأخذ شيئا أبدا بل تسلمت ما أُعطي إليها. لا تستطيع المرأة حتى في الحلم إزالة الذكور. فالعلاقة التي تربطها بمضطهديها لا مثيل لها. ذلك أنّ انقسام الجنس هو في الواقع شيء عضوي محسوس وليس مرحلة من تاريخ البشر. إنّ ما يميز المرأة بصورة أساسية هو كونها الجنس الآخر ضمن وحدة ذات حدّين متلازمين…

إلى جانب ميل المرء إلى تأكيد نفسه كشخص، هناك ميل إلى الهروب من حريته وتحويل نفسه إلى غرض أو إلى متاع. إنّ هذه الطريق، طريق وخيمة، لأنّ المرء السلبي الذي يعيش في ضياع، يصبح فريسة لإرادة الآخرين، عاجزا عن إغناء ذاته محروما من كل القيم. ولكنها طريق سهلة لأنّها تجنّب المرء الحيرة والمسؤولية. لذلك يلقى الرجل الذي يجعل من المرأة «الجنس الآخر» استعدادا عميقا من جانبها يساعده في مهمته.

 

 

فاطمة المرنيسي.. نساء على أجنحة الحلم

ولدت في حريم بفاس، المدينة المغربية التي تعود إلى القرن التاسع، وتقع على بعد خمسة آلاف كيلومتر غرب مكة وألف كيلومتر جنوب مدريد، إحدى عواصم النصارى القساة. مشاكلنا مع النصارى كما يقول أبي وكما هو الشأن مع النساء تبدأ حين لا تحترم الحدود، ولقد ولدت في فترة فوضى عارضة، إذ النساء والنصارى كانوا يحتجون على الحدود ويخرقونها باستمرار.

على باب حريمنا ذاته، كانت النساء يهاجمن «أحمد» البواب ويضايقنه باستمرار، وكانت الجيوش الأجنبية تتوافد مجتازة حدود الشمال. والواقع أنّ الجنود الأجانب كانوا مرابضين في زاوية دربنا بالضبط، الموجود في الخط الفاصل بين مدينتنا القديمة، وتلك التي بناها الغزاة وأسموها المدينة الجديدة.

يقول أبي بأنّ الله عندما خلق الأرض وما عليها فصل بين النساء والرجال، وشق بحرا بكامله بين النصارى والمسلمين، ذلك أنّ النظام والانسجام لا يتحققان إلّا إذا احترمت كل فئة حدودها، وكل خرق يؤدي بالضرورة إلى الفوضى والشقاء. غير أنّ النساء كن مشغولات باختراق الحدود، مهووسات بالعالم الموجود خارج الأسوار، يتوهمن أنفسهن طيلة النهار متجولات في طرق خيالية. وخلال تلك الفترة كان النصارى يجتازون البحر تباعا زارعين الموت والفوضى.

الشقاء والرياح الباردة يأتيان من الشمال، ونحن نولي وجهنا للشرق للصلاة. مكة بعيدة ولكن صلواتك قد تصلها إذا عرفت كيف تركز، وسيلقونني التركيز في الوقت المناسب. كان الجنود الإسبان مرابطين شمال مدينة فاس، وحتى أبي وعمي اللذين كانا من أعيان المدينة ويمارسان سلطة لا تناقش في البيت، كانا مجبرين على طلب الإذن من مدريد لحضور موسم مولاي عبد السلام بالقرب من طنجة على بعد ثلاثمائة كيلومتر من مدينتنا. ولكن الجنود الواقفين على بابنا ينتمون إلى قبيلة أخرى. لقد كانوا فرنسيين، إنّهم مسيحيون كالإسبان ولكنهم يتحدثون لغة مغايرة، كانوا يسكنون بلادا أبعد في الشمال، وباريز هو اسم عاصمتهم. يقول ابن عمي سمير بأنّها تبعد ألفي كلم وأنّها أبعد من مدريد مرتين وأنّ سكانها أكثر شراسة. يتنازع المسيحيون كالمسلمين في ما بينهم طيلة الوقت، وقد مزّق الإسبان والفرنسيون بعضهم البعض على أرضنا. وبما أنّ أحدهم لم ينجح في القضاء على الآخر، قرروا تقسيم المغرب إلى قسمين. لقد أوقفوا جنودا قرب «عرباوة» وأعلنوا بأنّ من شاء التوجه نحو الشمال، عليه الحصول على جواز سفر لأنه يدخل المغرب الإسباني، وإذا شاء التوجه نحو الجنوب عليه أن يحصل على جواز مرور آخر إذ أنّه حسب قولهم يجتاز حدودا للدخول إلى المغرب الفرنسي، وإذا ما رفض الشخص الامتثال لأوامرهم سيظل محاصرا في عرباوة، وهي مكان اختير بطريقة عشوائية شيدت فيه باب ضخمة أسموها حدودا. ولكن أبي شرح لنا بأنّ المغرب موحد منذ ملايين السنين، وحتى قبل مجيء الإسلام أي منذ أربعة عشر قرنا، لم يسمع أحد بحدود تقسم المغرب إلى قسمين.

الحدود خط وهمي في رأس المحاربين. ابن عمّي سمير الذي كان يرافق عمّي أحيانا ووالدي في أسفارهما يقول بأن اختلاق حدود يقتضي التوفر على جنود لإجبار الآخرين على الاقتناع بها، أمّا في المكان ذاته فلا شيء يتغير، إنّ الحدود لا توجد إلّا في أذهان الذين يملكون السلطة. ما كان بإمكاني التأكد من ذلك في عين المكان لأن عمّي وأبي كانا يؤكدان بأنّ النساء لا يسافرن، فالأسفار خطيرة والنساء عاجزات عن الدفاع عن أنفسهن. عمّتي حبيبة التي طلقت وطردت من بيتها دون سبب من طرف زوج كانت تكنّ له كل الودّ، تزعم بأن الله بعث بجيوش الشمال ليعاقب الرجال على عدم احترامهم للحدود التي تحمي الضعفاء، والإساءة إلى امرأة تعدّ تخطيا لحدود الله، ذلك أنّ الإساءة إلى الضعفاء ظلم، وقد بكت عمّتي حبيبة طيلة سنوات.

 

فيرجينيا وولف.. غرفة تخصّ المرء وحده

… لقد قامت النساء طيلة الوقت وعبر قرون من الزمن بوظيفة المرآة العاكسة، لكنّها مرآة تمتلك قوى سحرية لذيذة، تعكس صورة الرجل مضاعفة عن حجمها الطبيعي. دون تلك القوى ربّما ظلت الأرض غابة تملؤها المستنقعات، ولظلت أمجاد كلّ حروبنا في طيّ الغيب. لكنّا الآن لم نزل نخدش بقايا عظام الخراف نرسم عليها الظباء ونقايض حجر القداح بفرو الخراف، أو ما شابه، وفقا لذوق بدائيّ لم يتثقف. ولما وجد «سوبرمان» ولا «أصابع القدر» ولما وضع القيصر ولا القياصرة التيجان على رؤوسهم ولما خسروها أيضا. إنّ المرايا مهما كانت استعمالاتها في المجتمعات المتحضرة تظلّ جوهرية بالنسبة لكلّ أفعال البطولة والعنف.

ومن هنا جاء تأكيد كلّ من نابليون وموسوليني على دونية النساء، وذلك لأنّهم لابد أدركوا أنّهم لا يتميزون ولا يكبرون، وأنّهم يتوقفون عند حجم معيّن لو لم تكن النساء أدنى وأقلّ. وقد يفسّر ذلك جزئيا ضرورة النساء للرجال. كما يفسّر انزعاج الرجال وتململهم في حالة نقد النساء لهم، وكيف أنّه من المستحيل أن تقول لهم امرأة إنّها وجدت كتابا كتبوه سيّئا أو تقول عن صورة رسموها إنّها ضعيفة، أو أيا ما كان، دون أن تتسبب في ألم عميق بكثير ودون أن تؤجج غضبا أكثر بكثير عمّا إذا كان رجلا هو الذي قدّم النقد ذاته. فلو أنّ امرأة بدأت بقول الحقيقة لترتب على ذلك أن تنكمش صورة الرجل في المرآة ولانتقص ذلك من لياقته مدى الحياة. كيف يتسنى له بعدها أن يستمرّ في إصدار الأحكام، وتهذيب البرابرة، ووضع القوانين، وكتابة الكتب، والتفاخر بملابسه، وإلقاء الخطب في الحفلات إلّا إذا كان في استطاعته رؤية نفسه على الإفطار كلّ صباح وكلّ مساء عند العشاء، أكبر من حجمه الحقيقي مرتين على الأقل. هكذا تأمّلت الأمور وأنا أكسر الخبز وأقلب قهوتي وأتطلع من حين لآخر إلى الناس في الشارع. إنّ الرؤية المعتمدة على المرآة في غاية الأهمية لأنّها تشحذ الحيوية، وتنشط الجهاز العصبي. لو أننا حرمناه منها لربّما مات الرجل مثله مثل مدمن المخدرات إذا ما حرمناه من الكوكايين.

أنظر من النافذة، أرقب الناس، وتراءى لي أنّ نصف البشر يذهبون إلى أعمالهم تحت وطأة سحر ذلك الوهم، يرتدون قبعاتهم ومعاطفهم في الصباح وقد غلفهم ذلك الوهم في أشعته اللطيفة. إنّهم يبدؤون يومهم واثقين… ومتأكدين أنّ وجودهم مرغوب في حفل الشاي الذي ستقيمه الآنسة سميث، ويقولون لأنفسهم عندما يدخلون (غرفة جلوسها) إنّهم أفضل وأكثر امتيازا من نصف الموجودين (في الحفل) وهكذا فهم يتحدثون من واقع تلك الثقة في النفس والاعتزاز بها، ممّا كان له أعمق الأثر في الحياة العامة وممّا أدى بي إلى تلك الملاحظات الغريبة على هامش الذهن.

ولكن تلك الإسهامات الخطيرة والمثيرة الفاتنة، في موضوع سيكولوجية الجنس الآخر، وهي ما آمل أن تتحرّونه عندما يصبح لكلّ واحدة منكن دخل لا يقل عن خمسمائة جنيه في السنة تخصّكنّ وحدكنّ. وهنا اضطررت للتوقف لدفع الحساب. كان إجمالي الحساب خمسة شلنات وتسع بنسات، أعطيت النادل ورقة بعشرة شلنات… كانت هناك ورقة بعشرة شلنات أخرى في محفظتي ولاحظتها، لأنّ قدرة محفظتي على توليد أوراق العشرة شلنات أتوماتيكيا مازالت تصيبني بالدهشة الشديدة. أفتح حافظتي وأجد أوراق البنكنوت. فالمجتمع يوفر لي الفراخ والقهوة، ومكانا للمبيت وسريرا في مقابل عدد بعينه من الأوراق المالية التي تركتها لي عمة، لا لسبب غير أنّي أشاركها اسم العائلة نفسه…

وصلتني أنباء التركة في الوقت ذاته تقريبا الذي صدر فيه القانون الذي سمح للنساء بالإدلاء بأصواتهن في الانتخابات… وما بين حق التصويت في الانتخابات والمال، بدا المال الذي امتلكته بوفاة عمتي أهم بكثير.

نوال السعداوي: الأنثى هي الأصل

1 – قضية تحرير المرأة قضية سياسية بالدرجة الأولى، لأنّها لا تمسّ حياة نصف المجتمع فحسب، ولكنها تمسّ حياة المجتمع كله. إنّ تخلف المرأة وتكبيلها لا يؤخر النساء فحسب، ولكنه ينعكس على الرجال وعلى الأطفال، وبالتالي يقود إلى تخلف المجتمع كلّه.

2 – الهدف من تحرير المرأة هو إطلاق إمكانياتها الفكرية جميعا من أجل إثراء المجتمع فكريا، وإثراء حياة وشخصية النساء بالعمل المنتج والمشاركة في تطوير المجتمع. أي إنها قضية حرية فكرية للنساء من أجل العمل الخلاق، وفي ظلّ المساواة الكاملة بين الجنسين، وليست مجرّد حرية جنسية من أجل قتل الفراغ والملل وامتصاص الطاقة المعطلة.

3 – أثبت العلم أنّ أيّ قيود على الإنسان، رجلا أو امرأة، وسواء كانت هذه القيود فكرية أو نفسية أو جسدية. فإنّها تعرقل تطوره الطبيعي، وتؤخر نضوجه الفكري أو النفسي أو الجسدي، وبالتالي تتعارض مع صحته الجسدية والنفسية. وعلى هذا فإنّ القيود المفروضة على النساء فكرا ونفسا وجسدا تضرّ بصحتهم وتضرّ أيضا بصحة الرجال وصحة الأطفال. وينشأ الجميع في مناخ غير صحيّ يزيد من التخلف.

4 – إنّ أيّ دين من الأديان لا يمكن أن يتعارض مع العدالة والمساواة بين جميع أفراد المجتمع، ولا يمكن أن يتعارض أي دين مع الصحة الجسدية والنفسية لجميع أفراده رجالا ونساء. ولهذا ليس علينا إلّا أن نعرف الطريق الذي يقود إلى صحة الإنسان (رجلا وامرأة) فيكون هو طريق الدين، لأنّ الدين خلق لسعادة الإنسان وصحته ولم يخلق لتعاسته ومرضه.

5 – إنّ النساء وحدهن لا يمكن أن ينلن الحرية والمساواة في مجتمع لا يحقق الحرية والمساواة لجميع فئاته المختلفة، ولهذا لا يمكن فصل قضية تحرير النساء في أيّ مجتمع عن تحرير الفئات الأخرى المظلومة.

6 – إنّ شرف الإنسان رجلا أو امرأة، هو الصدق، صدق التفكير وصدق الإحساس وصدق الأفعال. إنّ الإنسان الشريف هو الذي لا يعيش حياة مزدوجة، واحدة في العلانية وأخرى في الخفاء.

7 – ليس هناك أيّ دليل علميّ في البيولوجيا أو الفسيولوجيا أو التشريح ما يثبت أنّ المرأة أقلّ من الرجل عقلا أو جسدا أو نفسا. إنّ الوضع الأدنى للمرأة فُرِض عليها من المجتمع لأسباب اقتصادية واجتماعية لصالح الرجل، ومن أجل بقاء واستمرار الأسرة الأبوية، التي يملك فيها الأب الزوجة والأطفال كما يملك قطعة الأرض.

ليلى أبو زيد.. عام الفيل

… من هذا الطريق مرّ موكب عرسي وانتهى في ذلك البيت، بيت العبودية الذي حسدوني عليه. حسدوني على العريس أيضا. معلم الفرنسية شيء ذو بال في ذلك الزمن. لم أعرفه، أما هو فقد رآني في باب بيت جدي أتفرج على موكب موسيقي فأرسل يخطبني. بنى اختياره على طول شعري وسواد عيوني. عرضوا عليه الكثيرات قبلي ووجد لكل منهن عيبا. قصرا، طول، نحافة، كثرة الأهل… قال لهم أبي: «البنت بنت جدها».

وزوجوني من دون أن يطلبوا رأيي، وجاءت هداياه في الأعياد حتى قبل العرس بعد أسبوع فاجتاحني الجزع. وبدأ الماراتون. إعداد الجهاز، صنع الحلوى، الحمام، النحر، الحناء، وصول هدايا العريس، ليلة الزفاف. سبعة أيام كنت أتحاشى جدتي فيها لأتوارى لأبكي. وحين خرجت بين من يزغرد ومن ينوح عاودني إحساس مررت به منذ سنين. كنت مع جدتي في ضريح المولى إدريس الأزهر، نأكل خبز شعير وزيتونا ورأيت جثمانا على خشبة في قماش أبيض عليه غطاء أسود فداخلتني الرهبة والتقزز ومضيت ألوك الطعام ولا أحسّ بطعمه. وعلى ذلك النحو خرجت من بيت جدّي. استغرقت المسافة وقتا طويلا وجدت خلاله في فمي طعم الزيتون وخبز الشعير. هل يعلم القلب؟ وانفضّ الماراتون وقضت أمي وجدّتي أياما في فراش المرض. كنا حمقى أو كنا نعاني نقصا في الترفيه.

مضى عليّ عام في بيت أهل زوجي لا أغادره. ولم يأت النسل فبدأ الطواف على الأضرحة وحرق البخور وتعليق الأحجبة وتجرع الأعشاب. لو أعطوني السم لشربته. وحين يئسوا انحطت معاملتهم. وثبت عندي، من كثرة التكرار، أنني أنا السبب فرزحت تحت وطأة ذلك إلى يومنا هذا. ترى هل أنا السبب؟

لو سَعَف أمّه لطلقني من عامي الثاني، فالعقم سبب كافٍ في مجتمع لا يعبأ بالمسببات، أو لتزوج وذلك أضعف الإيمان. لم تعش لتنعم بالنصر الماحق. كان حكمها في حياتي كحكم الإقطاع. فيه كان عليّ أن أصحو وأحمد لها نعمة إنجابها ابنها. عهد بائد. كيف تحملت؟ أنا نفسي أتعجب. لو كان لي عقل اليوم لبصقت في وجهها وصفقت الباب وخرجت.

ويوم قال: «تقرر أن أنتقل إلى الدار البيضاء». صكّت وجهها وشقّت ثوبها واتهمته بالعقوق. وتذكرت أنا ما دأبت أمّي على ترديده: الصبر مفتاح الفرج. وحين تركت البلدة كنت نشوى بالانعتاق.

… الدار البيضاء بياض وزرقة. قلب المغرب النابض، قلبه المفتوح. محطة النازحين وموطن الناس أجمعين. عمارات وأضواء وسيارات. عالم جديد. عالم عجيب. بيضة حضنتها فلول الاحتلال وتكسرت عن غول كبر بسرعة ليأكلها. في أيام عرفتها. أجفلت منها ثم أحببتها. سيدي بليوط، الميناء، الكاريير سانطرال، ابن مسيك، الشوارع، المتاجر، وتلك السهولة في ربط العلاقات والصداقات! تربة طيبة تنبت فيها كل بذرة. أمضيت فيها عشر سنوات أخرى. مراحلي تعدّ بالعقود. عشت وقدمي على الأرض ورأسي في السماء. جبلتني الدار البيضاء جبلة أخرى ولكنني بقيت لا أعرف كيف أقول لا حتّى جاء الطلاق.

… ووصلت الورقة وما يخوله القانون. أخطرني البريد فذهبت وانتظرت في طابورين حتّى تسلمتهما، الورقة فالحوالة. هل يوجد في الدنيا إذلال أكبر؟ استبدّ بي الحنق حتى شعرت بألم في رأسي. وطلبت استمارة كتبت فيها اسم زوجي وعنوانه ورددت إليه مبلغه. ألم أتعلم الكتابة في الدروس الليلية؟ حاربنا الأمية عند من يجهلون القراءة والكتابة وتركنا المثقفين. لفّني الضباب، كأنني أعيش الصدمة من جديد وشعرت بالبرد وخرجت كأنني خارجة من بيته مرة أخرى وتهت من جديد ثم وجدت مقعدا في الشمس وجلست عليه. بعد ذلك عرفت أنني في حديقة عمومية تركها الفرنسيون. وجاءت كوكبة من الأطفال وضجّوا من حولي. الحياة عفن والناس ما تزال تتناسل! «الأطفال هم الدليل على أن الله لم ييأس من الإنسانية». لا أدري من قال ذلك. سبحانه! ما أوسع صبره!

ليلى بعلبكي.. أنا أحيا

… دخلت المكتب الشاسع وأسندت ظهري إلى الباب، وسرّحت نظري في أرجاء هذا العالم الغريب. واستقرت عيناي على يدي، فإذا هي حمراء، كأنّها تقطر دما. خفت، واعترتني رغبة بكاء عاصفة، وانتزعت عينيّ فورا عن يدي، ورميتها على ساقيّ، فإذا هما أيضا تكادان أن تقطرا دما! رفعت عينيّ عنهما، ورحت أفتّش في القاعة عن اللون الأحمر، فتعلقت عيناي بالسقف، وبجوانب الغرفة: تعلّقتا بالأضواء الحمراء التي تنزّ دما!

هذه الأضواء مثيرة. الدفء في جوانب المكتب مثير. المقاعد الجلدية بأخشابها اللماعة مثيرة. الزهور البيضاء، ووجودها في مؤسسة أعمال، وفي الشتاء مثيرة. وهذا الصوت الذي يرحّب بقدومي، هو أيضا مثير.

وخطرت في رأسي فكرة جنونية، هي أن أعود. أعود. وتتابعت دقات حروفها الأربعة في رأسي بانتظام. أعود.. أ.. ع.. و.. د..

هل أعود؟

وسلخت نظري عن الأضواء، وحدّقت في صدر القاعة، فإذا عيناي، كعيني الهرّ، تبرقان في هذا الجو الأحمر، الساخن، وتراقبان حركاتي.

أحسست باطمئنان حين وجدت العينين، لأنهما كانتا ساخرتين فشجعتني سخريتهما على استجماع وعيي، فزحفت زحفا على السجادة صوب رئيس المؤسسة. واقتربت، اقتربت إلى أن لامس جسدي كله المنضدة الكبيرة، ومددت يدي أصافح «المقعد الجلدي»، ثم جلست.

أأنا مخطئة إذا دعوت هذا الرجل: المقعد الجلدي؟

تعودت ألا أعرف الأشخاص بأسمائهم، لأنني أعتقد أنّ أكثر الأسماء لا تنسجم مع نفسيات أصحابها، ولأن الشخص الواحد أحيانا يدل على فئة معينة من الناس: فالبعض أطفال، والبعض هررة، أو ثعالب، أو خنازير، أو روائح، أو جمادات، أو آلهة. أمّا هذا الرجل الذي يقف أمامي، فهو يكمّل أثاث هذه القاعة الغريبة: إنّه المقعد الحي فيها. وتتربع على هذا المقعد، كما استنتجت، دولتان هامتان، تسيطران على سياسة العالم –أو بالأحرى تحاولان السيطرة على هذه السياسة العالمية- من عندنا من الشرق الأوسط، من قلب الدول العربية.

وبدأ «المقعد» كلامه، فلم أتأثر بصوته الدافئ، بعد أن رأيت عينيه الساخرتين، قال: «لا أستطيع أن أصدق، إنّك أنت هي التي أعلن الحاجب عن قدومها. هل أنت لينا فياض؟» وصمت ينقب في وجهي عن الحقيقة… ثم همس: «والدك صديقي».

فكّرت: «والدي صديق كلّ مستغل للحوادث السياسية» وانفجرت بضحكة غيظ.

فعادت نظرات الحاجب تأخذ مكانها في عيني «المقعد الجلدي» البراقتين. نظرات تهيّب واستغراب. وإذا حركة تفيق في رأسه: حركة التلبية، والتصديق، والاحترام.

كففت عن الضحك، وتكلمت: «اطلعت على إعلانكم في النشرة الإخبارية اليومية التي تصدرها مؤسستكم، ولمست في نفسي الكفاءة المطلوبة في الموظفة التي تحتاجون إليها».

نهض منتصبا، يرتكز على جيبه الأيسر، وصاح: «أنت! أنت ستعملين؟ أنت طفلة… لا عفوا، أعني أنت ابنة هذا الثري؟»

بأي مقياس يقيسني هذا الأحمق؟ أيعتبرني طفلة وأنا في التاسعة عشرة من عمري؟ ألا يحق لي أن أعمل، إذا والدي، لا أنا، يملك الملايين؟ أنا أحتقر والدي. وأحتقر ملايينه، وأحتقر هذا «المقعد» الذي لا تعجبه انطلاقاتي! ألا يعلم هذا، أنني لو خُيرت باختيار والدي، لما كان والدي هو والدي، ولا كان هذا «المقعد» القذر؟

هببت واقفة، ورددت على مهل: «جئت لأعمل هنا، لا ليؤخذ استجوابي. إذا كان هناك مجال للعمل، فأرجوك أن تطلعني على تفاصيله وشروطه، وإلّا…»

استوقفني بلين: «تمهلي… تمهلي… عودي في التاسعة من صباح الغد، للشروع في عملك، وليس هنالك شروط». بحركة لا شعورية، صافحته، وتركت البناية ركضا. وحين تهادت حبات المطر على وجهي، وعاد الصقيع لينام في أطرافي، وعلى رأس الأنف، فركت عينيّ، وسرت تحت المطر…

لم تقلقني غرابة مقابلتي «للمقعد الجلدي» ورهبها. لم يقلقني رجوعي إلى البيت. أجل إلى البيت. تربطني بالبيت حاجة واهية، تعيدني إليه دوما، لآكل فيه وأنام وأشترك في بعض المناقشات، والمخاصمات، والمشاكل. الآن، وأنا بعيدة عنه في هذا الشارع الممطر، الضاجّ، أعجز عن تجسيم صورة له.

 

لطيفة الزيات.. الباب المفتوح

… ولم تفهم ليلى تلك الليلة لم نظرت إليها جميلة هذه النظرة الحزينة ولم بكى أبوها. ولكنها فهمت على مرّ السنين، فهمت أنها ببلوغها دخلت سجنا ذا حدود مرسومة على باب السجن وقف أبوها وأخوها وأمّها، والحياة مؤلمة بالنسبة للسجان والسجينة. السجان لا ينام الليل خشية أن ينطلق السجين، خشية أن يخرج على الحدود، والحدود محفورة حفرها الناس ورعوها وأقاموا من أنفسهم حراسا عليها. والسجينة تستشعر قوى لا عهد لها بها، قوى النمو المفاجئ، قوى جارفة تسعى إلى الانطلاق، قوى في جسمها تطوقها الحدود، وقوى في عقلها تشلّها الحدود، حدود بلهاء عمياء صمّاء.

ورسم أبوها الحدود العامة وهم جلوس على مائدة الغذاء، قال في صوت هادئ قاطع:

-أنت ضروري تدركي يا ليلى أنك كبرت، ومن هنا ورايح خروج لوحدك ما فيش، زيارات ما فيش، من المدرسة على البيت…

واتّجه بعينيه إلى محمود وأضاف:

-و مش عايز أشوف في البيت روايات ولا مجلات خليعة. فاهم؟

وأطرق محمود ولوى شفته السفلى، وقال الأب في صوت أرق:

-اللي أنت عايز تقراه اقراه بره ولا إخفيه، أنا مش عايز حاجة تسمم أفكار البنت.

والتقت عينا الأب بعيني محمود في نظرة رجل لرجل، وابتسم محمود ابتسامة من يعرف ويفهم، واستأنف الأب كلامه:

-و كمان يا محمود أنا مش شايف داعي أن أصحابك يزوروك في البيت، يا أخي مش كفاية القهوة والنادي.

… وفي السابعة عشرة أصبحت ليلى فتاة ممتلئة الجسم متوسطة القامة، خمرية، مستديرة الوجه، دقيقة الملامح في استواء، عريضة الجبهة، عيناها عسليتان عميقتان ضيقتان شديدتا اللمعان، وإذا ما ابتسمت ارتفعت وجنتاها الورديتان إلى أعلى وضاقت عيناها حتى أصبحتا خطا رفيعا من نور يلتمع، وإذا ما اطمأنت بكل وجهها… بشفتيها وبعينيها وبأنفها، وإذا ما أثار الحديث اهتمامها مالت برأسها وأنصتت والكلمات تتدفق من أذنيها إلى قلبها، وإذا أثار الحديث حماسها أو شفقتها التمعت عيناها بالدموع…

كان وجهها يشع بالانطلاق والحيوية والإشراق على عكس جسمها. كانت تمشي وكأنّها مقيدة بسلاسل ثقيلة، تجرّ جسمها خلفها وكتفاها منحنيتان ورأسها ممدودة إلى الأمام وكأنّها تريد أن تصل بأقصى سرعة إلى هدفها لتختفي عن الأنظار، وحين تجلس لا تكاد تستقر في مكان بل تتحرك باستمرار، ولا تكاد تعرف أين تضع يديها وكأنهما جسمان غريبان عليها وفي حركاتها ثقل وخوف وخاصة في البيت. أمّا في المدرسة فكانت أكثر انطلاقا. كانت المدرسة جزءا من عالمها الذي تحبه، هذا الهدير من الأصوات المختلفة… الجرس، الضحكات المجلجلة حينا والمكتومة حينا آخر، والخطوات التي تدبّ في الممر مسرعة إلى الفصل، والعيون التي تبتسم، والمرح في الفصل، والمؤامرات الهامسة التي تدبر ضد المدرس أو المدرسة والولاء الذي يجمع بين الطالبات لا ينال منه تهديد ولا عقاب، والتعليقات المكتوبة التي تُمرر حين يستعصي الكلام، وفسحة الظهر والشلّة، والنكات الهامسة التي تحمر منها الوجوه ثم تنفرج في ضحكة طويلة، والقصص الخافتة في ركن ناءٍ والمستمعة تفتح فمها كالبلهاء، ووقع الملاعق على الأطباق في المطعم… والفصل المقفول في الفسحة والرقص البلدي، والمناقشة في السياسة والخلاف حول أم كلثوم وعبد الوهاب والصداقات التي تنبع فجأة، والخصام والدموع والصلح. وهي تستحوذ على اهتمام الفصل بتفننها في الشقاوة، وتُغضب المدرس وتعود فتسترضيه وتخطب في المناسبات الوطنية وتبرز في الجمعيات الأدبية ويعترف لها مدرس اللغة العربية بالتفوق وتفوز ببطولة المدرسة في البينغ بونغ وتشترك في فريق الكشافة وكرة السلة وتتزعم شلّة تغرقها حبا…

وعندما ينتهي اليوم الدراسي تنتظر حتى تنصرف آخر تلميذة ثم  تطلع إلى فصلها والمدرسة ساكنة خالية، وتعد كتبها وتنصرف إلى البيت بخطوات متثاقلة.

 

مليكة مستظرف.. يوم الثامن مارس

يوم الثامن من مارس صادف حصّة غسيل كلي لديّ… كان ذلك يوم الأربعاء المنصرم. كل شيء كان من الممكن أن يمرّ هادئا وعاديا لولا دخول بعض «النسوة» إلى غرفة –الديلزة- متمنيات لنا عيدا سعيدا… كانت الدهشة تعلو ملامح المرضى متسائلين عن المناسبة؟ امرأة عجوز قالت وهي ممدة على فراشها: عاشورة فاتت… واش عيد الميلود قرب؟ همست لها محاولة كتم ضحكتي: لا أميمتي هذا اليوم العالمي للمرأة… حكّت رأسها كأنّها تفكر في أمر مهم، شعيرات حمراء متفرقة تحاول إخفاءها بمنديل ذي ألوان فاقعة، رأسها يبدو كبصلة صغيرة: آش كيديرو فيه؟ قديدة؟ ضحكت هذه المرّة بصوت مرتفع: لا، هم يتكلمون فقط في هذا اليوم. لوت شفتيها وقالت: الله يستر. كنّ حوالي عشرين امرأة يلبسن ملابس أنيقة من الفرو ويضعن عطورا فاخرة… ومساحيق كثيرة يوزعن ابتسامات مزيفة بسخاء… يطرحن أسئلة بليدة، أخذن صورا مع المريضات وهن مبتسمات… نساء فارغات مفلسات عاطفيا، يحاولن تزجية الوقت بشيء ما، فلم يجدن سوى المستشفى. وعندما انتهين غادرن وهن مبتسمات أيضا. حاولت أن أفهم لماذا يبتسمن بغباء واضح فلم أفهم. بالتأكيد سيذهبن بعد ذلك إلى مطعم فخم احتفاء «بإنجازهن العظيم» كنت أتمنى لو هؤلاء «النسوة» سألن الأطفال ليعرفن أنهم بلا طفولة فعلا. أطفال لديهم لغة خاصة بهم، لا يدخل ضمنها لعب وكرة وسفر ومدرسة ومحفظة ورياضة… أطفال بقامات قصيرة وأجساد نحيلة صفراء لا يكبرون أبدا، أطفال أقصى أمانيهم لعب الكرة والجري مثل أقرانهم. أطفال يعانون هشاشة العظام، وفقر الدم وارتفاع في الضغط وهلّم أمراض… لا يخرجون من مشكل صحيّ حتى يدخلوا آخر. أطفال لا يذهبون إلى المدرسة لأنّهم ساعات الدرس يكونون في المستشفى ثلاث مرات أسبوعيا لتصفية الدم. كنت أتمنى لو هؤلاء «النسوة الثامن مارسيات» لو سألن شابات ليعرفن أنهن لم يعدن يحلمن ببيت وزوج وأولاد، ويحلمن فقط بكلية لا يتعدى حجمها ثماني سنتمترات. كنت أتمنى لو هؤلاء «النسوة» المترفات ذهبن إلى مراكز غسيل الكلى الخاصة ليعرفن الوجه الحقيقي للمعاناة: أناس باعوا ممتلكاتهم ومنازلهم وأثاث بيوتهم، وغادروا عملهم كرها بعد الطرد من مسؤولين لا يتفهمون هذه الأوضاع الخاصة وأصبحوا بين عشية وضحاها «على الضس»، ومنهم من يستجدي في الشارع، أجل «ي…س…ت…ج…د…ي» لتوفير ثمن حصة غسيل الكلى التي تكلف في المتوسط 800 درهم للحصة الواحدة، فالمريض رغم حالته الصحية المزرية عليه أن يجرجر جسده ليطرق كل الأبواب المتاحة وغير المتاحة. هناك من يساعد ببعض الدراهم وهناك من يقفل الأبواب امتعاضا كأنه ينظر إلى طعام حامض. يحدث هذا في غياب تام للدولة تتركنا نواجه مصيرنا لوحدنا والمسؤولون ينظرون إلينا بأفواه مفتوحة ببلاهة وبلادة يقولون كلاما ضخما وكثيرا من الوعود التي لم تنفذ ولن تنفذ.
وأنا أنظر إليهن أحسست بتفاهتهن وسطحيتهن، أحسست ببون شاسع بين أحلامنا وأحلامهن بين همومنا وهمومهن، بين بؤسنا وترفهن بين وبين وبين… هل تعرفن ماذا أخذ منا المرض وماذا علمنا؟ المرض أخذ أعمارنا سرق شبابنا وطفولتنا، وعلمنا أن حتى العلاج في هذا البلد ترف غير مسموح به للجميع. قبل أن أنسى: أنتن نساء ثمانية مارس  «أقصد بعضكن» مفلسات عاطفيا ومزيفات. لم أكن أرغب في الحديث عن هذا المرض أو المستشفى لأنني مللت هذا، لكن هؤلاء النسوة قمن باستفزازي.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى