كاد الحسن الثاني يعينه وزيرا للشغل لولا ميولاته البوهيمية
حسن البصري
في مدينة العرائش مسقط رأس عبد الصمد الكنفاوي، يحمل زقاق اسمه كما تخلد مكتبة وسائطية ذكراه، وفي الدار البيضاء توجد قاعة الكنفاوي بالقرب من حديقة الجامعة العربية، فيما تحرص جمعية باسمه على حفظ اسم هذا الرجل لمدة أطول في وجدان المغاربة، لكن أم المفارقات ألا تحمل قاعة مسرح اسم عبد الصمد الكاتب المسرحي الذي ظل يرفض من أجل أب الفنون مناصب سامية في سلك الدولة.
ظل المسرح يسكن دواخله إلى آخر رمق في حياته، فقد حرص على قراءة آخر الأعمال المسرحية، وسعد بزيارة رجال المسرح أكثر من زيارة كبار المسؤولين له وهو على فراش المرض، بعد أن ظل يخفي آلامه ويصر على ممارسة النضال السياسي والنقابي غير مهتم بالمرض الذي يضرب كبده.
لم يكن أحد من زملاء عبد الصمد الكنفاوي يعتقد أن الرجل الذي شغل مناصب دبلوماسية هامة، سيعتزل المناصب العليا وينخرط في الفن المسرحي، وحدها زوجته فالسيوني دانيال، هي التي تفهمت الوضع ورافقته في أصعب المعرجات التي مر بها سيما في صراعه مع المخزن الذي اعتبره عنصرا لا يمت للدبلوماسية بصلة، فقط لأنه كان يفكر بصوت مسموع.
ولد عبد الصمد في مدينة العرائش سنة 1928، وهي المدينة التي تعلق بها أديب يتقاسم معه الهوس الأدبي «جان جيني»، هكذا عشق عبد الصمد العرائش وحجز لها مكانا في قلبه، حتى حين انتقل إلى الرباط لاستكمال تعليمه بثانوية مولاي يوسف.
بفضل المسرح كتب لعبد الصمد أن يقوم بأول رحلة خارجية صوب فرنسا، ففي سنة 1956 مثل المغرب ضمن فرقة مسرحية محترفة، في مهرجان باريس كان نصيبها الرتبة الثانية، من خلال عمل مسرحي تفاعل مع الجمهور عنوانه «الشطاب»، أي الكناس، بل إنه أصبح في ظرف وجيز مديرا لفرقة المعمورة.
لكن بعد حصول المغرب على الاستقلال شرعت أول حكومة في رصد الكفاءات المغربية، فكان نصيب عبد الصمد منصب دبلوماسي رفيع، إذ عين ملحقا ثقافيا في قنصلية المغرب ببوردو، إلا أن الرجل ظل يتردد على مسارح بوردو وباريس وستراسبورغ ثم موسكو، إضافة إلى مرور عابر ببوينيس أيريس.
في سنة 1961 شارك عبد الصمد في إضراب تحت لواء الاتحاد المغربي للشغل، احتجاجا على طرد مجموعة من الدبلوماسيين، ولأن الإضراب حسب «المخزن» ليس من «شيم القناصلة»، فقد غضبت الخارجية من الكنفاوي وغضب هو أيضا منها ليتم تسريحه، ويعود سعيدا إلى الخشبة، لكن اسمه كان ممنوعا في الإذاعة.
عاد الكنفاوي إلى المناصب الحكومية بعد أن هدأت الغضبة، وتقلد منصبا قياديا في مكتب التسويق والتصدير، وكاتبا عاما في فترة ثانية بالصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، دون أن يدير ظهره للمسرح حيث ظل يقضي لياليه في كتابة أعمال خالدة، منها ما تعرض للمصادرة مما زاد من غضبه خاصة مسرحية «بوكتف»، التي منعت من البث الإذاعي بسبب تأويلات حول شخصية بوكتف الرئيسية، بل إنه بنزعة التمرد التي كانت تسكنه، أثار قلقا في وسط الفرقة المسرحية وكان أول من طلب تعويضات لعناصر المجموعة من مالية الإذاعة مقابل تقديم مسرحية على الأثير.
كان الرجل بوهيميا يسهر الليالي وهو يحاور ملكة إلهامه، وهو ما دفع الملك الحسن الثاني، ليقول لأرسلان الجديدي، حين كان هذا الأخير وزيرا للشغل، «لو لم يكن عبد الصمد بوهيميا لعينته بدلا عنك على رأس قطاع الشغل».
يقول عنه الراحل المسرحي الطاهر واعزيز: «كان الكنفاوي ذا ثقافة متينة وشخصية فنية متكاملة، فقد شارك خلال التداريب المسرحية في الترجمة والاقتباس والإخراج والتسيير والتأليف المسرحي، ولم يفته أحيانا أن يدخل حلبة الرقص مع الممثلين في نهاية بعض المسرحيات الناجحة».
ومن المفارقات الغريبة في حياة عبد الصمد الكنفاوي، أنه لم يكن يعول على تعويضات المرض التي يدفعها الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي لفائدة المنخرطين، بل إنه كان يقتص نفقات شراء الأدوية باهظة الثمن من ماله الخاص، علما أن منصبه كأمين عام للصندوق يعفيه من مثل هذه المصاريف المكلفة، لكن أم المفارقات أن يطالب بتمكين عناصر فرقة المعمورة من التغطية الصحية، دون أن يكون صاحب المقترح يتمتع بهذا الحق .
عشق عبد الصمد العرائش وحجز لها مكانا في قلبه، حتى حين انتقل إلى الرباط والدار البيضاء ظل يقطع المسافات صوب معشوقته. لذا التمس من زوجته حين داهمه مرض السرطان الخبيث دفنه في مقبرة للالة منانة التي لطالما ركض فيها حين كان طفلا.