قيم التعايش والتسامح (2)
بقلم: خالص جلبي
يعود الفضل في كتابة هذه المقالة إلى الدكتور رزاقي من مكناس، فهو من أقام ندوة تضم جمهرة من المفكرين لبحث مسألة قيمة التعايش والتسامح. ووجهة نظري أن التدين يشبه الملح والهورمونات في البدن. فبدون الملح في الطعام يفقد كل نكهة، وبدون التدين في الحياة تنقلب الحياة إلى آلة لا معنى لها. وبقدر حاجة البدن الضرورية إلى الملح، بقدر تسممه إذا زادت الجرعة. ولكن قبضة من ملح في الطعام تجعل النفس تعافه، وما ينظم فعاليات البدن (الغدة النخامية) في قاعدة الدماغ وتفرز عشرة هرمونات ولا يزيد وزنها عن نصف غرام، وزيادة طفيفة في هرمون التيروكسين تورث خفقانا في القلب ورجفة في اليدين، كما في مرض التسمم الدرقي (Hyperthyroidism)، ونقصا طفيفا من الهرومون يضفي على البدن خمولا لا نهوض منه؛ فهذه هي جدلية التدين والتعصب. إذا أخذ التدين بجرعته المناسبة وامتزج بالوعي، أعطى للحياة معنى ونشر الرحمة والحب ومشت الحياة بنظم لا يخطئ. وإذا زادت الجرعة انقلب الوعي إلى تعصب، والفهم إلى تشدد، والحياة إلى جحيم لا يطاق، وبرمجت الحرب الأهلية.
والتعصب وباء خطير ينتشر كما في انتشار الأوبئة، فينقلب المجتمع إلى مصحة أمراض عقلية بدون أسوار وقضبان وأطباء، وعلى المرء أن يساير الموجودين فيها، كما يفعل الطبيب لنزلاء المصحة من المرضى النفسيين، فيبتسم لهلوساتهم وهذيانات العظمة عندهم؛ فهذه القيمة الحدية للأشياء ضمن وسطها (الذهبي).
وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم.
إن ظاهرة التكفير هي في الواقع لون من ادعاء الألوهية، فهي تعني أن طرفا يحكم على طرف آخر منافس أنه حرم من رحمة الله. وهي تأتي من خلال (وهم) مفاده، أن طرفا يملك الحقيقة النهائية المطلقة، وأنه (الممثل الشرعي الوحيد) لله، وتقود إلى كارثتين:
ـ الأولى (الانغلاق على النفس) و(عدم التطور)، لأنه طالما قنص طرف الحقيقة وتكلم نيابة عن الله، فهو لا يحتاج إلى نصيحة أو تطور أو مراجعة، لأنه سقف التطور وآخر الحقيقة وسدرة المنتهى.
ـ والأمر الثاني هو بناء طريق أحادي، تماما كما في طرق سريعة بدون عودة فيها. فطالما احتكر طرف الحقيقة، فإن الطرف المقابل ليس أمامه إلا أن ينصت لهذا الوحي، الذي يتدفق على ألسنة كائنات أرضية من بشر مختارين لا يخالطهم النقص أو يقترب منهم الخطأ، وأي مناقشة لهؤلاء (البشر) تعني التشكيك في (الحقيقة الإلهية)، وهو يعني من باب خفي اختلاط الإلهي بالبشري، أو معادلة الإلهي بالبشري. الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له ولي من الذل وكبره تكبيرا.
وهذه الخطيئة القاتلة لا تنفرد بها أمة دون الأمم أو جماعة دون أخرى، ولكنها مرض إنساني يصيب الجماعات التي تتحنط عبر التاريخ وتموت على شكل طوائف لا تسمح بالتعدد أو اختلاف وجهات النظر، كما حصل مع طائفة الأميش في بنسلفانيا في أمريكا أو الإسكيمو والبدو واليهود كما ذكر ذلك المؤرخ توينبي، في معرض حديثه عن الجماعات المتحجرة التي تخسر الرهان في التحدي التاريخي.
إن ظاهرة التكفير وعدم التسامح مع الآخر، وإغلاق باب الحوار، والاضطهاد والإكراه والنفي من الأرض والقتل والتهجير الجماعي تكررت في القديم والحديث وعند كل الأمم. وأمريكا تم استعمارها على يد جماعات مضطهدة هاربة من أوربا. كما أن الفاشية والنازية أهدت أمريكا خير العقول. وهرب الهجنوت من اضطهاد الكاثوليك في فرنسا إلى ألمانيا وهولندا، ليبزغ عصر التنوير. وحيث تدفق البروتستانت ولدت الرأسمالية، كما ذهب إلى ذلك عالم الاجتماع الألماني (ماكس فيبر).
إن الخوارج قديما والصهاينة والكنيسة المتعصبة والإسبان، الذين دمروا حضارات الإنكا والأزتيك والنازيين والفاشيين وجماعات التكفير المعاصرة والشيوعية والبوجروم ضد اليهود والحروب الصليبية، التي دامت 171 سنة، والشاب الألماني روبرت هويزر الذي قتل، في 26 أبريل من عام 2002م، 17 شخصا في ضربة واحدة. وكل هذه الأمثلة تغرف من النبع نفسه، أي اعتبار الآخر مارقا مجرما كافرا يجب التقرب بدمه إلى الله.
ومن هنا فإن مشكلة التكفير تنبع خطورتها أنها ليست حركة انعزالية سلبية، بل شيطانية عدوانية. والأنظمة العلمانية القومية تبقى أرحم من الاتجاهات المتدينة المتطرفة في ما لو صار الأمر إليها، لأن الأنظمة القومية تبقي على المخالف ما لم ينازعها كرسي الحكم، فإذا نازعها نزعت روحه. أما المتدينون المتشددون فسوف ينزعون الروح وهم يفتشون عن صحة العقيدة، كما فعلت محاكم التفتيش لمدة خمسة قرون. ويبقى هامش الخطأ عند القوميين أرحم، أما الخطأ مع المتشددين فهو الكفر، ويجب أن يستتاب صاحبه وإلا قتل.
إن كارثة اختلاط الإلهي بالبشري تقود إلى اختلاطات لا نهاية لها، مثل انتشارات السرطان. وهذا يقود إلى سلسلة من النتائج المفزعة، تبدأ من (سيطرة الوهم)، ثم (قتل آلية النقد الذاتي)، فـ(توقف حركة التصحيح) فـ(توقف حركة النمو)، فالوصول إلى (الموت الظاهري)، وتحصيل حاصل أن هذا يقود إلى برمجة كل أنواع الحروب الأهلية ومع الجيران والعالم؛ لذا كانت (حركة التكفير) اختناقا داخليا وانتحارا عقليا وهوسا دينيا ورعبا اجتماعيا وتصفية لكل مبادرات التفكير، وفي جو التكفير يتم اغتيال التفكير. فلا تفكير في جو التكفير.
في كتاب (بجعات برية) للكاتبة (يونغ تشانغ)، تروي عن أمها التي انضمت إلى الحزب الشيوعي أن (ماوتسي تونغ) أطلق في عام 1957م شعار «لتتفتح مائة زهرة»، وكان يعني فتح الباب على مصراعيه من أجل النقد ولأي مستوى قيادي. وفي الوقت نفسه، أوعز لمن حوله شعارا مضادا بعنوان «استخراج الثعابين من جحورها»، وهكذا فكل من مارس النقد أصبح يمينيا متطرفا، عدوا للثورة يجب التخلص منه، وكانت حصة والدة الكاتبة أن تدل على مائة من اليمينيين المرتدين الكافرين بالثورة. وفي مركز الأبحاث في سيشوان كُلِف رئيس المركز العالم، (هاو)، أن يقوم بالشيء نفسه بتقديم لوائح اليمينيين ذوي الأصول الرديئة. وعندما رفض الامتثال لأوامر الحزب، تحول إلى (كناس) في معهده ذاته زيادة في الإذلال، أما هي فقد تم التأكد من طهارتها الحزبية أن نامت معها جاسوسة في سريرها نفسه، فلعلها نطقت بأحلامها بكلمات ضد الثورة والرفيق القائد.
نافذة:
إذا أخذ التدين بجرعته المناسبة وامتزج بالوعي، أعطى للحياة معنى ونشر الرحمة والحب ومشت الحياة بنظم لا يخطئ. وإذا زادت الجرعة انقلب الوعي إلى تعصب، والفهم إلى تشدد، والحياة إلى جحيم لا يطاق، وبرمجت الحرب الأهلية