قوانين القوة في الحكم والسياسة (1/2)
حذار على من يدخل منافذ القوة ومفاصل الحكم والإدارة أن يتضخم أكثر من اللازم فيخيف الآخرين. وعندما تعرض (ابن خلدون) لنكبة البرامكة قام على طريقته (التفكيكية) باكتشاف كنه القانون الاجتماعي الذي يحكم علاقات القوة؛ فاستبعد أن يكون السبب (جنسياً) بسبب مغامرة طائشة بين (العباسة) أخت هارون الرشيد و(جعفر بن يحيي بن خالد البرمكي) بل أرجع السبب إلى نفس ما أودى بمصير وزير المالية الفرنسي (فوكيه) الذي لمع أكثر من ملك الشمس لويس الرابع عشر؛ فيقول (حتى كان الرشيد يطلب اليسير من المال فلا يصل إليه؛ فغلبوه على أمره، وشاركوه في سلطانه؛ فعظمت آثارهم، وبعد صيتهم، وعمروا مراتب الدولة واحتازوها عمن سواهم، من وزارة وكتابة وقيادة وحجابة وسيف وقلم، وعظمت الدالة منهم، وانبسط الجاه عندهم، وانصرفت نحوهم الوجوه، وخضعت لهم الرقاب، وقصرت عليهم الآمال، وتخطت إليهم من أقصى التخوم هدايا الملوك وتحف الأمراء، وتسربت إلى خزائنهم أموال الجباية، ومدحوا بما لم يمدح به خليفتهم، واستولوا على القرى والضياع، حتى أسفوا البطانة، وأحقدوا الخاصة؛ فكشفت لهم وجوه المنافسة والحسد، ودبت إلى مهادهم الوثير من الدولة عقارب السعاية).
وأما قصة المغنية التي أنشدت الشعر بين يديه؛ فلا تزيد عن القشة التي قصمت ظهر البعير، تحت قانون (التراكم الكمي الذي يقود إلى تغير نوعي ويشكك فيه البعض)؛ فقد أنفذوا له ذات ليلة من تغني:
ليت هندا أنجزتنا ما تعد
وشفت أنفسنا مما نجـد
واستبدت مرة واحـــــدة
إنما العاجز من لا يستبد
ويقال أن هارون الرشيد عندما سمع أبيات الشعر قال: (إي والله إني لعاجز).
ويعقب ابن خلدون على ذلك في تأسيس هذا القانون الاجتماعي: (حتى بعثوا بأمثال هذه كوامن غيرته وسلطوا عليهم بأس انتقامه).
إن الأشياء تتراكم حتى تنفجر في لحظة واحدة، ويتعجب الإنسان من تفاهة القول، أو صغر الواقعة، وعظم نتائجها، كما حدث مع حرق البوعزيزي نفسه في تونس، ليحرق العالم العربي كله، لأن العالم العربي يتفسخ بالاستعداد الغريب لأنه جثة منذ أيام كافور الأخشيدي وسعيد جقمق من المماليك البرجية؛ فإذا كانت الرافعات في الكعبة تنهار على رؤوس الحجاج والمعتمرين (11 سبتمبر 2015) في ذكرى أحداث سبتمبر بعد 14 عاما بضرب برجي نيويورك، فهناك ما هو أدهى وأمر، من انهيار النظام العربي وتفسخ دوله، إلى الدرجة التي يقول فيها أمين عام الجامعة العربية إن مسألة اللاجئين السوريين أكبر من العالم العربي.
هي في الواقع تراكمات بطيئة، مثل التصدعات الجيولوجية؛ فتأتيها لحظة ثقلت في السموات والأرض؛ فترتج الأرض بزلزال عظيم، ويغشى الناس دخان مبين وعذاب أليم، وتقصم القرى وهي ظالمة فيخرج أهلها راكضين. لا تركضوا وارجعوا إلى ما أترفتم فيه ومساكنكم لعلكم تسألون.
وما حدث مع وزير المالية الفرنسي (فوكييه) في القرن السادس عشر، أو مع (البرامكة) قبل ذلك بثمانية قرون، يكرر نفس القانون الاجتماعي.
من يضع نفسه يرفعها، ومن يرفع نفسه يضعها، كما جاء في الإنجيل، فالكبرياء يسبق الانهيار دوما.
وفي القرن السادس عشر للميلاد تروى قصة مشابهة جاءت في كتاب (هارولد لامب) عن السلطان العثماني (سليمان القانوني) عندما جاء إلى السلطة، وكان مولعاً بصديق له اسمه (إبراهيم) أصله يوناني، فقال له سوف أجعلك مستشاري الأول. قال له أريد منك أمرا واحدا، قال ما هو؟ قال عندما تريد تسريحي من عملي فاصرفني بكرامتي، فرد السلطان بثقة: لك ذلك.
ثم دارت الأيام وصعد نجم (إبراهيم) وأصبح الصدر الأعظم، وزوجه السلطان أخته؛ فأصبح صهر السلطان الأعظم سليمان، الذي سماه الغربيون (القانوني)، أو (العظيم) لأن الدولة العثمانية بلغت ذروة امتدادها وقوتها في عصره، ولكن نهاية الرجل كانت مروعة حيث قتله في مجلسه وبقي دمه مرشوشا في الغرفة ثلاثة أيام.
وقبل مصرع إبراهيم حصل نفس الشيء مع ابنه مصطفى من الزوجة الشركسية (جول) أي الوردة؛ فقد أحسنت الزوجة الأخرى الروسية (روكسانا) التآمر، وأدخلت إلى روع السلطان الأعظم، أن ابنه كبر حجمه أكثر من أبيه، وأنه يتآمر عليه؛ فكانت نهايته في ماردين خنقاً بثلاثة أوتار تشد بثلاث اتجاهات، أمسكت حلقه واقفاً، وهو تقليد تركماني للقتل السلطاني، ولم يتوقف القتل عند الابن مصطفى؛ بل بخطف الحفيد من يد أمه وذبحه أيضاً. وتابعت يد الموت عملها؛ فقد هرب ابن روكسانا الأكبر بلجوء سياسي إلى طهران؛ فلحقوه إلى هناك وقتلوه.