قنطرة ابن طاطو بين الأسطورة والواقع
لا أجازف بالقول بأني أعرف عن الحاج ابن طاطو غير ما تجود به الأسطورة التي كنا نتناقلها صغارا، وكبرنا ولما تزل عالقة بالذاكرة، مثل الأشياء الحميمية الصغيرة التي لا ينقطع صداها. فثمة حاجة لتلويك الأساطير تجعل المرء يختبر قدراته، منذ أن حلم أطفال بإمكان وضع «طاقية الإخفاء» على رؤوسهم للتسلل إلى متاجر الحلويات واللعب.
إن لم يكن للحكايات الشعبية من أثر، إذ ترويها الجدات لجلب النعاس إلى جفون الصغار، فإنها تشحذ الأذهان عبر تمارين خيالية، ستجعل من أدب الخيال وروائعه فنا قائم الذات. فالأساطير إن كانت تترجم مستويات الخيال والتخيل، فإنها كذلك ذات سند واقعي في الإيحاءات والدلالات. والأكيد أنه لم يطلق على قنطرة في مدينة فاس اسم ابن طاطو، إلا لكونه استحق ذلك عن جدارة أو تزلف، لا يهم.
ما ارتبطت تلك القنطرة بشغب الطفولة، الذي يختلف عن ظاهرة شغب الملاعب، إلا لكونها كانت تقود بعد اجتيازها إلى حقول وبساتين، كنا نعتقد أنه لا يوجد بعدها العالم. ودأب أطفال على التسلل إليها خلسة لقطف حبات الرمان والتفاح والإجاص واللوز، في مواسم الغلل الوفيرة.. قبل أن يقطفها المزارعون ويأتون بها إلى «الرصيف» طازجة منعشة. فالفواكه المتدلية من الأغصان ليست مثلها حين تتطلب نقودا لاقتنائها.
ولأن الطفولة لا حدود لما تشتهيه، فقد دلنا صديق طفولة على بستان والده، كي نجرب طرائق التسلل واقتناص حبات الغلل. كان يرافقنا في المغامرة، حتى إذا فاجأنا مساعد والده، رد الصغير بأننا مجرد أصدقاء نرغب في النزهة، ونريد قياس معارفنا في الكتب الملونة على الواقع الأشد تلوينا على الطبيعة.
ما بين بساتين ويسلان وباب الكيسة وأحواض كرواوة، كانت الرحلات تتشابه في مغامراتها، أكانت لاصطياد الطيور، وخصوصا أنواع «الزرزور» السوداء التي تتطلب مهارة عالية في صنع المجانيق الصغيرة من أغصان الزيتون، أو للقيام بغزوة لملء الجيوب بحبات «التغزاز» ذات المذاق الحلو. وكان اجتياز قنطرة ابن طاطو ضروريا، كونها منطلق الذهاب والإياب، بالغنيمة أم من دونها.
ولتتدفق حكايات بطولات عن الطفل المشاكس الذي تسلق الشجرة ولم يرغب في الهبوط منها، لأنه شاهد مقاطع من فيلم «أبي فوق الشجرة» الذي غنى فيه عبد الحليم حافظ لعيني ميرفت أمين الذابلتين. وعن الآخر الذي جرى بسرعة خمسين كيلومترا في الساعة هربا من هراوة حارس البستان الذي لمحه من بعيد.. ولا بأس من اختلاق المزيد من الروايات المخيفة، طالما أن زقاقا في حي المخفية لا يمكن عبوره من دون التوغل في بيت مظلم يحرسه شيخ، كنت كتبت عنه يوما أنه «نبت في دربنا وكان يأكل التراب في كل وجبة».
دعونا من الهلوسات. وما حكاية قنطرة ابن طاطو التي سارت بذكرها الركبان؟ إنها مثل أي جسر صغير معلق بين ضفتي الوادي الذي يشطر مدينة فاس العتيقة إلى نصفين. ولولا أنها كانت تقود إلى بساتين الطفولة التي اقتلعها الإسمنت المسلح، كما هوى على معالم ومآثر لإشباع نهم مضاربي العقارات في أي رقعة على الأرض، لما تذكرها أحد من المتبقين على قيد الحياة، وهم ينظرون إليها دافئة ومشعة من وراء الزجاج الخلفي للأيام المتعاقبة.
تقول الحكاية التي قد يكون أو لا يكون لها أساس من الصحة، أن سكان العدوتين في فاس ضجروا من فيضانات النهر إذ يحول دون تنقل السكان إلى حوانيتهم وتجارتهم وحرفهم وعرائنهم.. فقرروا بناء قنطرة عبر حملة اكتتاب يساهم فيها كل فرد بنزر مما تيسر له. وشرعوا في طرق أبواب البيوت يعرضون لخطتهم.
حدث في الأثناء أنهم توقفوا أمام مسكن التاجر الحاج ابن طاطو الذي كان غائبا، فصدتهم إحدى الخادمات بصلافة، وسجلوا بيت التاجر ضمن مساكن البخلاء التي لا يجب الاقتراب نحوها. انتشرت الحكاية وبلغ إلى علم التاجر ما أصبح ينعته به سكان الحي. غضب لذلك غضبا شديدا وقرر أن يكفر عن ذنب الخادمة، من خلال بناء قنطرة لا مثيل لها في العالم.
تضيف الحكاية أنه أرسل أعوانه إلى أسواق المدينة وضواحيها، بغاية شراء كل البيض الذي يعرض في الأسواق، ثم أوعز بعد توفر الكميات اللازمة إلى عمال بناء بأن يخلطوا أصفر البيض ببياضه، ويجعلوا منه مادة صالحة للبناء، بدل الرمل والآجور، وأقاموا القنطرة في غفلة من حملة الاكتتاب. وكانت هذه الوقائع في مقدمة الأسباب التي أرخت لإطلاق اسم الحاج ابن طاطو على القنطرة.
كبر الأطفال الذين كنا. ولا أحد يعلم من أين كانت تأتي حلاوة «التغزاز» الذي نتهافت عليه. المؤكد أنه لم ينقرض، لكن العادات مثل الحرف تتقادم ويتهاوى صرحها، ولا أعرف تحديدا إن كانت قنطرة ابن طاطو لا تزال في مكانها.
أتطلع إلى وجوه ضاحكة أو عابسة تسأل إن كان موسم الخرف حل قبل أوانه. لكن الحكاية كما في الأسطورة أو الواقع المتخيل لا تنفصل عن أخلاقيات الكرم الذي يطرد ظلام البخلاء. ولولا أن بعض أغنياء القوم يسخرون عطاء الله لفعل الخير، لما سادت القناعة بتفرقة الأرزاق والألوان والأجناس.
وإلى حكاية أخرى من صميم الواقع هذه المرة.