قمة مجموعة السبع.. قوت الأرض وسيوف الجياع (1/2)
في ملخص «تقرير التقدم»، الصادر عن قمة مجموعة السبع المنعقدة في إيسي ـ شيما، اليابان؛ جاء أنّ «التنمية وتمكين جميع الشعوب» أولوية متطابقة لقمم المجموعة، و«الحساب والشفافية يظلان مبدأين جوهريين للقمة كي تحافظ على مصداقية قراراتها وفعاليتها». هذه أولى أنساق الجعجعة بلا طحن!
وقبل أن يلتئم شمل قادة اليابان وكندا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا وبريطانيا والولايات المتحدة والاتحاد الأوربي، كانت اليابان قد احتضنت أيضاً سلسلة اجتماعات وزراء الخارجية، والمالية، والعلوم والتكنولوجيا، والبيئة، والتربية، والطاقة، والزراعة… أشدّ الأجندات طموحاً تلك التي تسعى إلى «نموّ شامل دائم وقوي»، عماده إصلاح النظام الاقتصادي العالمي عن طريق التوازن بين السياسات النقدية والضريبية، والإصلاحات الهيكلية؛ وأفصحها نفاقاً، تلك التي تطالب بـ«الحفاظ على الإرث الثقافي إزاء الاعتداءات الإرهابية»، خاصة آثار تمبكتو والموصل وتدمر؛ وأمّا أكثرها حرجاً وإلحاحاً فإنها «الإقرار بوجود أزمة عالمية» تخصّ الهجرة عموماً، وأعباءها المالية على أوربا بصفة محددة.
المرء، في المقابل، يندر أن يرتاب في أنّ أجندات أخرى ستكون حاضرة، ولكن تحت الطاولة كما يُقال، حول اقتصاد الصين (المصنّعة الثانية عالمياً، ولكن الغائبة عن القمة)، وروسيا فلاديمير بوتين (في أوكرانيا أولاً، ولكن ليس في سوريا بالضرورة)، وشبح استفتاء البريطانيين على مغادرة الاتحاد الأوربي؛ ثمّ «داعش» بالطبع، ودائماً، في التجليات والمفاعيل التي لا تبدو للعيان خلف الكليشيهات المعتادة التي باتت مقترنة بهذا التنظيم (اقتصاد النفط مثلاً، وتأمين الأسلحة والذخائر، وتواطؤ الأنظمة، وتطابق المصالح التي لا يلوح أنها يمكن أن تتطابق…). وثمة، كما في كلّ قمّة مماثلة، ذلك المسكوت عنه/المفضوح: أنّ الاقتصاد الدولي معتلّ من الرأس حتى أخمص القدمين، في دول مجموعة السبع + روسيا، قبل الصومال والإكوادور والهند والأرجنتين ومصر؛ وأنّ الكبار، هنا تحديداً، يريدون من الضحية أوّلاً أن تقدّم المزيد من القرابين!
ويُنسب إلى الصحابيّ المسلم أبي ذرّ الغفاري هذه العبارة الشهيرة: «عجبت لمَن لا يجد القوت في بيته، كيف لا يخرج على الناس شاهراً سيفه»؛ كأنْ يصبح «متشدداً» و«متطرفاً» و«إرهابياً» و«انتحارياً»، بمصطلحات عصرنا. وأمّا في المسيحية، لكي يذهب المرء إلى ديانة أخرى وإلى مثال من عصرنا، ثمة عبارة شهيرة أطلقها البطريرك البرازيلي دون هلدا كامارا: «إذا وهبت الغذاء للفقراء، فإنهم يصفونني بالقدّيس. وإذا سألت لماذا لا يمتلك الفقراء الغذاء، يصفونني بالشيوعي». ولأنّ هذه الصفة الأخيرة لم تعد ذلك الخطر الأحمر الرجيم الذي يهدّد «العالم الحرّ»، فإنّ ثقاة اقتصاد السوق وصنّاع ما يُسمّى انتصار النظام الرأسمالي، مطالبون اليوم بتعامل أكثر تواضعاً (أي: اٌقلّ غطرسة) مع خروج الجياع من بيوتهم، في الواقع الفعلي وليس في المجاز، على امتداد غالبية العوالم الواقعة خارج نطاق «العالم الحرّ» إياه.
وفي توصيف اختلال ميزان العدل الاجتماعي ومعضلة سدّ الرمق، ليس الابتداء من الأمثولة الدينية إلا عتبة التعبير الأخلاقية الأبكر، والأبسط ربما، عن مأزق كوني عتيق؛ لا يكفّ عن إعادة إنتاج شروطه ضمن منحنى تدهور دائم، وتحسّن أو ثبات نادرين تماماً. في عبارة أخرى، لم يعد المرء بحاجة إلى كارل ماركس معاصر لكي يتلمّس مآزق الرأسمالية ذات النطاق الشامل، البشري الكوني أوّلاً؛ ثمّ تتماتها في المتواليات السياسية والاقتصادية والاجتماعية المتعاقبة، تالياً. كذلك فإنّ غائلة البؤس صارت جليّة بيّنة صريحة، على نحو جرّد الانحياز إلى صفّ دون آخر (الجوع أمام التخمة مثلاً، وأقصى الرفاه في مقابل أقصى الفاقة…) من رياضة الخيار القائم على ركائز فلسفية وإيديولوجية، كما كانت الحال في عصور سابقة، وصار الاصطفاف في خندق الفقراء أمراً بروتوكولياً مفروغاً منه.
وخنادق الفقراء أكثر من أن تُعدّ وتُحصى في الغالبية الساحقة من الدول الواقعة خارج نطاق، ومواصفات، اجتماعات الـ20، أو الـ G-7مضافاً إليها الاتحاد الروسي، أو لقاءات دافوس، أو مؤتمرات صندوق النقد الدولي، أو اجتماعات البنك الدولي… شعوب هذه الدول هي التي تدفع أبهظ أثمان ذلك التقاسم غير العادل للأدوار والمحاصصات، ومواردها تلعب دور صنبور الطاقة ومنجم الموادّ الخام وسوق الاستهلاك في آن، ولا غنى عنها لكي تدور آلة الاقتصاد الدولي، ولكي يعرف الكبار أفضل طرائق استثمار خيرات الأرض، وأفضل أَوجُه التنعّم بها. الأخطر، ربما، أن الحيلة قد تنطلي على هذه الدول، فتواصل مكوثها في صفّ الضحية، ظانّة أنها إنما تلعب دور الشريك المشارك في صناعة نظام العلاقات الدولية، أو صناعة التاريخ ليس أقلّ!
ولقد انطلت، وتنطلي، هذه الحيلة على دول الجنوب التي تقرّر، فَرِحة متفاخرة، أنّ دورها في صناعة التاريخ إنما ينحصر في مكافحة ما يُسمّى «الإرهاب الدولي» (بالنيابة عن الكبار الذين يستهدفهم الإرهاب بهذا القدر أو ذاك)؛ وفي الحدّ من انتشار التكنولوجيا النووية (بالنيابة عن النادي النووي الذي يحتكر الكبار حقّ الانتساب إليه)؛ وفي فرض الرقابة الذاتية الصارمة على إنتاج «أسلحة الدمار الشامل» (وهذه، بدورها، ينبغي أن تُحصر بين مزدوجات، لأننا لم نعد نعرف لها معنى دلالياً عادلاً أو ملموساً). والحيلة سوف تنطلي أكثر، وبمعدّلات متضاعفة، إذا قرّرت مجموعات دول الجنوب أنّ ليس من شأنها تقويض أنظمة داخلية كبرى صيغت لصالح الكبار وحدهم، في مؤسسات كبرى تنتهي أسماؤها دائماً بصِفة «الدولي»: مجلس الأمن الدولي، صندوق النقد الدولي، البنك الدولي. المسألة هنا لا تدور حول «الجنوب» في أيّ معنى موازٍ لـ«الشمال»، على نحو تناحري تناقضي عدائي صرف؛ بقدر ما تدور حول حقّ، ثمّ واجب، التمثيل السياسي الفعلي والفاعل لثُلثَي البشرية.
طريف إلى هذا، بقدر ما هو مرير أيضاً، أن يكون باراك أوباما أوّل رئيس أمريكي يزور هيروشيما وهو على رأس عمله؛ وكأنّ أقدار القوّة الكونية الأعظم شاءت أن يكون سليل أفريقيا والنظام العبودي هو، كذلك، أوّل قائد أعلى للجيش الأقوى في العالم، يتفقد آثار الاعتداء النووي الأوحد في تاريخ البشرية حتى الساعة! لن يعتذر، مع ذلك، والبرنامج يقول إنه سيضع إكليل زهور في هيروشيما، بعد أن زرع شجرة سيدر في إيسي ـ شيما؛ وكفى بهذه وتلك إشارةً إلى أن الزمن قد عفا عما مضى! ألم يقارن، ذات يوم غير بعيد، بين آلاف السوريين من ضحايا نظام بشار الأسد، وآلاف الأفارقة الذين قضوا نتيجة الحروب الإثنية والأوبئة والمجاعات، على نحو يتوخى تبرير وقوف إدارته مكتوفة اليدين؟
وإذا قال قائل اليوم إنّ الجياع قد لا يذهبون إلى حدّ إشهار السيف، كما أجاز لهم أبو ذرّ الغفاري، والاكتفاء بحرق الإطارات والاعتصام والتظاهر، فما الذي يضمن ألا يكون المتسائل عن أسباب افتقارهم إلى الطعام قدّيساً مثل كامارا؛ وأن يكون نموذجاً أكثر تشدداً وتطرّفاً وتعصّباً وأصولية، على غرار أسامة بن لادن و«الخليفة» البغدادي و«بوكو حرام»؟ وبالمعنى الاقتصادي ـ الاجتماعي الصرف، ألم يثبت التاريخ صحّة النبوءة الماركسية عن الرأسمالي الذي لا مفرّ له من خلق حفّار قبره، بيديه لا بيد خصومه؟ وفي ظلّ ما يجري اليوم من احتقانات حادّة في شوارع العالم الجائعة، أليست السياسة هي ما يشتعل أسوة بالاقتصاد، أو حتى قبله وبعده؟ ومَن الذي، في صفوف أهل التخمة المشفقين على أهل البؤس، ينكر أنّ السياسة ليست أقلّ من اقتصاد مكثّف، في أوّل الحال وفي ختامها؟