قلة الإيمان
عندما قال الملك في خطاب العرش الأخير إنه يحس بأن شيئا ما ينقصنا في المجال الاجتماعي فإنه يكون قد لخص ذلك السؤال المحير الذي يطرحه جميع المغاربة والذي تمكن صياغته كالتالي “شي حاجة فهاد لبلاد ماشي هيا هاديك”، فالميزانيات ترصد للمشاريع الاجتماعية بمئات المليارات، لكن النتيجة تكون دائما مخيبة للآمال، فعوض أن تتقلص معدلات الفقر والبطالة تزداد وتتضخم.
وما أشبه حالنا بحال تلك الحكاية التي تقول إن أحد المحسنين قام بدهن مبلغ مالي كبير بالسم ثم تبرع به لإحدى الجمعيات الخيرية لتوزيعه على الفقراء والمساكين، وفِي الغد انتشر خبر وفاة الوالي ووزير المالية ورئيس الجمعية وزوجته والمدير المالي، فيما لم تسجل أية حالة وفاة عند الفقراء والمساكين.
والواقع أن فشل المشاريع الاجتماعية عندنا له سببان لا ثالث لهما، إما أن الميزانيات لم ترصد أصلا وليس للمسؤولين عنها الجرأة لكي يصارحوا الدوائر العليا بهذه الحقيقة، وإما أن الميزانيات تم رصدها بالفعل لكنها تعرضت للقرصنة من طرف محترفي سرقة المال العام، ولا أحد يستطيع محاسبتهم أو إجبارهم على إرجاع ما نهبوه.
لذلك فما ينقصنا، خصوصا في هذه الظروف العصيبة، هو وضع كل مشروع اجتماعي يتم إطلاقه تحت أجهزة الرصد والتتبع والمحاسبة بشكل يومي، ولهذا نفهم الأمر الملكي بإحاطته علما بشكل دوري بمستجدات التدابير المرحلية الاجتماعية التي طلب من الحكومة إعدادها.
ومن يتأمل ما يحدث في المغرب يخرج بقناعة واضحة بكون المجتمع يعرف تسيبا غير مسبوق، وتراجعا متسارعا نحو الخلف في جميع المجالات.
ورغم أن بعض المشاهد التي أصبحنا نراها تبدو سطحية إلا أنها تكشف عن وجود عطب خطير في إدارة الحكومة لشؤون البلد، فعوض أن نرى مثلا شواطئ نظيفة ومنظمة خلال هذا الصيف، بدأنا نرى أصحاب العربات المجرورة وباعة “الكبال” يقفون بعرباتهم فوق رمال الشاطئ وأرجلهم في الماء.
وعوض محاربة الباعة الجائلين في الشوارع أصبحنا نراهم يتجولون بين المصطافين، ناهيك عن أصحاب الخيول والجمال الذين يجرون دوابهم خلفهم فوق الرمال بحثا عن من يشتري منهم صورة تذكارية على ظهر دوابهم.
أما شوارع وأزقة المدن فقد أصبحت بيد أشخاص بمجرد ما يلبسون “جيليات” يصبحون حراسا لا تنقصهم سوى الصفة الضبطية لاعتقال المواطنين من أصحاب السيارات الذين يرفضون دفع الجزية مقابل ركن السيارة.
هناك استهتار غير مسبوق بالقانون من طرف بعض القائمين على تطبيقه، هناك تطبيع خطير للشعب مع الفساد، وهناك توجه للاثنين نحو تحويل الاستثناءات السلبية إلى قاعدة والقاعدة إلى استثناء.
والنتيجة هي أننا أصبحنا نعيش في مجتمع يسير على رأسه عوض رجليه، والمصيبة العظمى أنه لا يعرف إلى أين يسير.
على مستوى الإدارة هناك فوضى عاتية تضيع معها مصالح الناس، وعلى مستوى الشعب هناك اختلال خطير لسلم القيم، بل يمكن أن نقول إن هناك انهيارا لهذا السلم، بحيث أصبحنا نرى ونسمع في الشوارع والأماكن العامة المغاربة ذكورا وإناثا يتكلمون لغة غير مألوفة نصفها سب وشتم بكلمات نابية ونصفها الآخر خليط من الأفكار المسطحة الضحلة والمواقف الموغلة في العنف الفكري والديني، وأصبحنا نرى كيف تزدحم الشوارع والمقاهي والفنادق بتجار اللحوم، وباعة المخدرات وقطاع الطرق.
ولعل أكبر مرض يعاني منه المغرب، ويكلفه ضياع الجهد والأعصاب والمال والوقت، هو مرض الإهمال.
بحيث تنطلق مشاريع بميزانيات تقدر بالملايير وفي الأخير تتوقف في النصف، أو عندما تكتمل لا تكون هناك صيانة مستمرة لها بحيث تندثر مع الوقت وتتوقف وتتحول إلى خراب.
ومن كثرة المشاريع المتوقفة أو المهملة أو المسلمة بشكل عشوائي، بسبب عدم تتبع المسؤولين للمشاريع التي يوقعون عليها، أصبح المغرب ورشا مفتوحا لمشاريع متعثرة وغير مكتملة.
وحتى تلك المشاريع التي يوقع المسؤولون على التسليم النهائي لها ما تلبث أن تظهر عيوبها مباشرة بعد التسليم.
هنا نصل إلى السبب المباشر لانتشار ثقافة “اللامكتمل”
l’inachevé، أو ما يسميه المغاربة “الخدمة الناقصة”، والذي هو الغش.
والغش يأتي من قلة الإيمان، لأن المؤمن الحقيقي لا يغش في عمله، ليس خوفا من محاسبة رئيس العمل أو المتابعة القضائية، بل لاتقاء غضب الخالق.
واتقاء غضب الله هو السبيل الوحيد لاكتساب روح المسؤولية والضمير المهني اللذين بدونهما تفشل كل المشاريع مهما سلطت عليها من أجهزة الرقابة.
ولذلك استحضر الملك في خطاب العرش آية ذات مغزى عميق من كتاب الله في سورة الطلاق “ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب”.
فالحل الوحيد إذن للحفاظ على هذا البيت المشترك الذي هو المغرب، بالإضافة إلى المراقبة والمحاسبة البشرية، هو مراقبة المسؤولين لله واتقاؤهم لحسابه في ما هم مستأمنون عليه من أموال ومصالح.
“حيت إلى جيتي غي على القانون بوحدو را خصك تشد النص فهاد المسؤولين كاملين فالحبس”.