قطبية غير مكتملة
بمنطق الأحزاب الخمسة الأولى، جميعها حقق تقدما في الاستحقاقات الأخيرة، قياسا إلى نتائج العام 2009. لكن التقدم الحقيقي ليس أساسه أعداد الترشيحات والمقاعد المحصل عليها فحسب، ما دام أن تغييرات وقعت في ترفيع أرقام المنتخبين، وإضافة مجالس الجهات التي لم تكن تنتخب في اقتراع مباشر، بل يكمن في القدرة على التأثير واستمالة الناخبين وتشكيل رأي عام مساند.
ما دام كل هؤلاء يقولون إنهم أحرزوا تقدما كبيرا أو متوسطيا، فمن هي الأطراف التي انكسرت وتعثرت جهودها؟ لا يتعلق الأمر بالأرقام، فهي ساحرة ومغرية ومحبطة أيضا، ولكن مستويات التأثير السياسي والنفوذ الحزبي المستقل هي المعيار الحقيقي للتقدم أو الانتكاس. ولن يكون جديدا بالنسبة للأحزاب التي توصف بامتدادات الحركة الوطنية أنها لم تحقق تطلعاتها، فقد جربت «ملاحم» صنع الخرائط الحزبية، وحين جاء دور الاتكال على النفس وقوة التنظيم وسلامة الرؤية، أخفقت في سحب البساط من تحت أقدام خصومها.
أما لماذا وكيف. فما من شك في أن الحسابات الخاطئة كما الفرضيات المبنية على الرمال تقود إلى نتائج وانكسارات. ولم يكن تلويح حزب الاستقلال بخيار «المساندة النقدية» للسلطة التنفيذية غير التجسيد العملي لبداية مراجعات. وأيا كانت خلفيات الموقف وتداعياته، فهو يكرس وجاهة افتقدتها بعض الهيئات في تعاطيها وتحالفات المرحلة. ولئن كانت مواجهة «العدالة والتنمية» من طرف المعارضة ارتدت طابعا سياسيا وأخلاقيا، فإن انقلاب المعادلة ضد بعض أحزاب الحركة الوطنية يشي بأنها دفعت ثمنا لم تكن تتوقعه. وفي أقل تقدير لم تنتبه إلى أن بعض المواجهات ينطبق عليها المثل القائل : قتلت يوم قتل الثورة الأبيض. علما أن اللون الأبيض في القصة له إيحاء خاص.
بهذا المعنى، يصبح إطلاق العنان لمظاهر الارتياح والرضى عن الأداء لدى فاعليات حزبية متسما بالمبالغة. وربما أن الاكتفاء بتصنيف الأحزاب إلى الخمسة أو الستة الأولى لا يترك مجالا لتأكيد أن وجود هذا الكم الهائل من الأحزاب التي يفوق عددها الثلاثين لم يعد مستساغا. طالما أن درجات حضورها الكمي لا يوازيه نفوذ نوعي، وتبدو قيمته المضافة أقل بكثير مما كان يعول عليه، على اعتبار أن تأثيث المشهد ينفع في تلميع الصورة. لكنه لا يعكس صداه على صعيد الواقع.
صحيح أنه لا يمكن إغلاق المنافذ أمام تأسيس الأحزاب، لأن وجودها يندرج في إطار الحريات العامة وإفساح المجال أمام مختلف التيارات والمشارب للتعبير عن وجودها، في نطاق التعددية. لكن الصحيح أيضا أن ظاهرة تشتيت الأصوات والجهود ليست سليمة، ولا تساعد في تكوين صورة واضحة عن التوجهات العامة.
قد يعين استمرار نوع من العزوف أن الناخبين المترددين لا زالوا لم يجدوا الإطار الملائم الذي يتماشى وتطلعاتهم. إلا أنه في ظل التوزيع الحالي للخريطة السياسية بات واضحا أن رهان القطبية لم يبلغ المستوى الذي يكفل تناوبا طبيعيا في التداول على السلطة. ولا يزال تشكيل الغالبية المساندة للحكومة مستمر النفوذ، منذ تجربة التناوب الوفاقي. وكما احتاجت «الكتلة الديموقراطية» وقتذاك إلى دعم شركاء من خارج مكوناتها، اضطر «العدالة والتنمية» إلى نهج نفس الأسلوب لإكمال النصاب العددي للغالبية النيابية.
الفرق في تجربة التناوب أنه لم يكن هناك ميثاق غالبية، تعود إليه أحزاب الائتلاف الحكومي عند وقوع أي اختلالات. لكن الميثاق في حد ذاته أنه ليس برنامجا سياسيا، والدليل على ذلك أن الائتلاف الحكومي تعرض إلى ورطة الخروج عن النص، عند انتخاب رؤساء الجهات وتشكيل مكاتب العمادات والبلديات. وليس صحيحا أن تحالفات الانتخابات المحلية لا تخضع لسلطة الانتماء الحزبي. لأن خروجها عن قاعدة الانضباط هاته، يعني أنها صارت قوة خارج إرادة الأحزاب التي منحها الدستور صلاحيات التأطير والتعبئة وبلورة إرادة الناخبين.
إذا كان مفهوما أن اختلاف نوعية ودرجات التحالفات لا يتطابق عند كل ما هو تشريعي وحكومي، مع معطيات التحالفات المحلية في البلديات والجهات، وربما مجلس المستشارين كذلك المقرر انتخاب أعضائه في الثاني من الشهر القادم، فالثابت أن الفعاليات الحزبية في المعارضة والغالبية لم تتقبل تلويناته. وبالتالي، فإن مواقفها تنقض ما آلت إليه تلك التحالفات. ولعل الأطراف التي استفادت من خلط الأوراق هي وحدها من يصر على النظر إلى التحالفات المحلية من منظور مغاير للصراع الدائر بين المعارضة والغالبية.
صار في الإمكان تقسيم المشهد السياسي إلى مربعات، على واجهتها الأولى يأتي «العدالة والتنمية» الذي يبدو أنه في وارد استخلاص نتائج انكسار تحالفه ضمن الائتلاف الحكومي، خصوصا على مستوى العلاقة مع تجمع الأحرار الذي لم يربح ما كان يتوق إليه. وفي الواجهة الثانية، يأتي الاستقلال الذي رفع شعار النقد الذاتي في مراجعة موقعه داخل مساحة التنسيق مع المعارضة. وسيكون لأي موقف يخذه أثره في خلخلة بنيات التحالفات القائمة، في ضوء ما مني به من صدمات.
على باقي الواجهات، يبرز «الأصالة والمعاصرة» الذي حقق ما كان يصبو إليه من شرعية، لدى تحالفه مع كل من الاستقلال والاتحاد الاشتراكي. بينما يظل تجمع الأحرار والحركة الشعبية، وبدرجة أقل التقدم والاشتراكية، أقرب إلى البحث عن أدوار جديدة في سياق التطورات الراهنة. فهل يمكن الإقرار بأن بداية تشكيل أقطاب حزبية في طريقها لأن تتبلور، تأسيسا على نتائج وتداعيات الانتخابات المحلية.
منطق الأشياء يقول بأن التشريعيات وحدها تتحكم في مسار التوجه نحو نظام القطبية الحزبية. غير أن اهتزاز المشهد الحزبي على وقع الاقتراع الأخير، لا يمكن أن يمر دون ترك بصماته. أقلها أن التحالفات التي هيمنت على الذهاب إلى استحقاقات البلديات التي هيمنت على الذهاب إلى استحقاقات البلديات والجهات، لن تكون هي نفسها التي ستكيف المحطة القادمة.
لننتظر وما نرى. وكل العيون والأعناق تشرئب إلى افتتاح السنة التشريعية الأسبوع المقبل.