قضية ترك السنن من مشكلات علوم الفقه
( تتمة)
رأينا في الحلقة الماضية أن الراجح جواز ترك السنن رأسا، وأنه لا يترتب على ذلك إثم، واطلعنا على بعض أسماء العلماء الذين اختاروا هذا المذهب. هذا من الناحية الأصولية المحضة، لكن لاشك أنه يجب أن نحضّ الناس على التزام ما أمكنهم من السنن، خصوصا المؤكدة، فهذا من محبة النبي عليه الصلاة والسلام ومن مقتضيات اتّباعه. أيضا من النادر أن يأتي المكلف بالفرائض بشروطها وكمالها، لذا تقوم السنن والنوافل بتكملة النقص الواقع.
والحقيقة أن للموضوع مآخذ أخرى قد يُغفل عنها، إذ يترتب على القول بوجوب الأخذ بالسنن تأثيمُ الأمة أو أكثرها، لِما هو مشاهد معروف من قلّة المسلمين الذين يلتزمون بالسنن. أيضاً ينتج عن هذا القول خطر تضخم دائرة التكليف واتساعها؛ إذ تصير كثير من السنن واجبات في العمل، ولا يبقى لها مما يُفرقها عن الواجب إلا الاسم وبعض الأحكام كالإعادة والقضاء.
أما العلماء الذين قالوا بتأثيم تارك السنن جملة -وهم الأكثرية بحسب ابن رشد الحفيد- فيَرِد عليهم أن التارك معاقب إذن، للتلازم الحاصل بين الإثم والعقاب.
وقد أجابوا عن ذلك بأن العقاب حاصل، لكنه ليس عقوبة النار كما في ترك الواجب، بل هو الحرمان من الشفاعة وعلوّ الدرجة، وفي رأي آخر هو تيسير المعصية وتفويت الطاعة.
وعلى الباحث في هذه القضية ألا يغفل عن قاعدة ضرورية لفهم كلام الفقهاء -في هذا الموضوع- على وجهه، بدا لي صحتها من خلال استقراء النصوص وتأملها، وهي:
أن كثيراً من كلام العلماء في تارك السنن، إنما قالوه وتحت بصرهم سنن أمثال: الآذان والإقامة، والعيد والوتر، والختان… أي سنن هي من شعائر الإسلام، ومكملات الدين، ولهذه –ولاشك- اعتبار خاص. لهذا فالتشديد الذي يلاحَظ في بحوثهم لا يجب تعميمه على كل أنواع السنن بمختلف مراتبها.
ثم إن هذا الكلام الصادر عن بعض علمائنا رحمهم الله يقرر قاعدة عامة، ويبقى أن لكل سنة على حِدة حكمُها الخاص الذي يراعى فيه مدى ثبوت النص الشرعي، ودرجة الاحتمال في معناه، واختلاف ألفاظه، وشدتها أو خفّتها، وسيرة النبي صلى الله عليه وسلم وعمل الصحابة… إلى غير ذلك من الاعتبارات والأحوال التي تضفي طابعاً خاصاً على كل اجتهاد جزئي فيميزه عن غيره.
وبناء على ذلك يبدو لي -والله أعلم- أن الشاطبي رحمه الله بالغ قليلاً حين اعتبر أنه قلّـما يشذ مندوب -عن قاعدة: المندوب بالجزء، واجب بالكل- فيكون مندوباً بالجزء وبالكل معاً؛ فيظهر مما تقدم أنه ليس بقليل، فكثير من المندوبات هي مندوبة بالجزء وبالكل أيضا.
لكن ما هو الحد الذي إذا بلغه تاركُ السنن استحق الذم الشديد أو الإثم وسقوط العدالة؟
الواقع أنني لم أجد -فيما اطلعت عليه- حداً واضحاً، لكن لي رأي أقدمه وينظر فيه:
في ترك الندب طرفان واضحان، فهناك -أولاً- بعض السنن المؤكدة مما هي أعلامُ الدين، فهذه لا يجوز تركها، أعني يحرم تركها تركا مطلقا. لكن -رغم ذلك- نحتاج إلى التفريق بينها وبين الواجبات، فهذا مما تحرص عليه الشريعة:
إذا كان الواجب لا يجوز تركه -بدون عذر- ولو مرة واحدة، فإن السنن الكبيرة لا تستلزم إثماً إذا تُركت مرة أو مرات، بل قد تستلزمه إذا اعتاد المكلف تركها، أي صار الترك له عادة. فلا ينبغي أن يعتاد المُكلف ترك صلاة الوتر مثلا، لكن لا حرج إن تركها أحيانا، ولو بلا سبب.
ويصعب ضبط هذه العادة وتحديد هذا القدر الذي يجوز تركه، وهذا موجود وكثير في الفقه؛ فالفقهاء عادة ما يتساهلون في اليسير -«من الفعل أو الشيء أو العدد أو الصفة أو الزمن»…- لكنهم قلما يضبطونه. ولعله يحسن الرجوع إلى ما كتبه الدكتور الريسوني في هذه القضية -في الضابط السادس لضوابط العمل بالتقريب والتغليب- واستحضاره هنا؛ مع ملاحظة أن اليسير المعفو عنه عادة في الشريعة مجاله الواجبات والمحرمات، وهو المقصود في كتاب «نظرية التقريب والتغليب»، إذن فمن باب أوْلى أن يكون اليسير -بل ما هو أكثر من اليسير- من ترك السنن من المعفو عنه.
وفي كتاب «المدخل إلى مذهب أحمد بن حنبل» ضبط ذلك بالأكثر، فقد نقل عن القاضيين أبي يعلى وابن عقيل أنهما قالا: يأثم بترك السنن أكثر عمره.
وبعد هذا، فإن لكل مسألة ذوقها الفقهي الذي يعتمد نصوصاً وقرائن وأمارات خاصة بها.
أما الطرف الثاني فهو النوافل العامة التي لا شيء في تركها اتفاقاً، حتى لو كان الترك كليا.
وبين الطرفين درجات ومراتب -كقسم من السنن المؤكدة، والرغائب…- بعضها له حكم الكراهة التنزيهية إذا تُرك، وبعضها له حكم خلاف الأوْلى.
ويظهر بعد هذا التقرير العام أنه لا سبيل إلى معرفة هذه الدرجات وأحكامها على وجه الدقة، بل هذا من مواضع الإجمال الذي تعمّده الشارع لتقع المسارعة إلى الخيرات وأداء الطاعات، ولا يستغربنَّ هذا، فإن له نظائر في الشريعة، انظر إلى ابن العربي رحمه الله يقول -في معرض حديثه عن الصلاة الوسطى، في القرآن-: «وأما من قال إنها غير معيَّنة، فلتعارض الأدلة وعدم الترجيح، وهـذا هـو الصحيـح؛ فـإن الله خـبـأهـا في الصـلـوات كمـا خـبّأ لـيـلـة القـدر في رمـضـان، وخـبـأ الساعة في يوم الجمعة، وخبأ الكبائر في السيئات، ليحافظ الخلق على الصلوات ويقوموا جميع شهر رمضان، ويلزموا الذكر في يوم الجمعة كله. ويجتنبوا جميع الكبائر والسيئات». وهذه المواضع المجملة الواقعة بين طرفين واضحين، هي من الشبهات التي يشرع عندها الاحتياط في الدين والبناء على اليقين.
والخلاصة أنه لا يجوز التشنيع على تارك بعض السنن، ولو المؤكدة، إذ غاية ما يجوز هو إرشاده بلطف وترغيبه في أداء هذه السنن لتحصيل الشفاعة والدرجات العالية.. إن سنن النبي الأعظم لا تُقدّر بالمئات، بل بالآلاف.. بل بعشرات الآلاف. وأين هذا الذي يزعم أنه آتى بهذه السنن جميعا، ولا حتى بأكثرها.. فمهما كان الرجل حريصا متبِّعا فسيترك ولامحالة قسما مهما من السنن. من هذا الذي يُطيق مقام الرسول الكبير، خيْر الخلق أجمعين، وأتقاهم لله وأعلمهم به؟
بين يديّ رسالة صغيرة للعلامة الحضرمي محمد بن علوي العيدروس رحمه الله، ضمنّها خمسمائة سنة من سنن الصلاة على مذهب الشافعي! لو ما كانتْ الرسالة بين يديّ ما صدّقتُ. لذلك أظن أن الإقامة الكاملة لجميع سنن النبي الكريم، وبمختلف مراتبها، هو لمجموع الأمة لا لأفرادها: تنوب الأمة عن نبيها، فهي معصومة كعصمته، واتفاقها شرع كشرعه.. فواجبها أداء جميع سننه بدون استثناء، بما في ذلك ما يسمى بـ«السنن المهجورة»، وما أكثرها.. وهكذا.
من حوالي عشرين سنة، حين انتبهت للموضوع، وأنا أنتظر أن يدرس أحد هذه القضية (ترك السنن) بعمق وإحاطة.. ولازلت أتمنى أن يتحقق هذا. وهو يحتاج لأكثر من دراسة ولجهد أكثر من فرد واحد.