قضاء الشارع
مريم كرودي
يحكى أن شابا كان يجلس برفقة أبيه في القطار، كلما وقعت عيناه على منظر طبيعي يصيح فرحا: «أنظر ما أروع هذه المناظر الخلابة يا أبي». يخرج يده لتلامس الهواء ويعود بها مذهولا متعجبا، ثم يعاود الصراخ: «كل الأشجار تسير وراءنا أبي». تصرفاته الغريبة أثارت استغراب الجالسين بقربهما، في حين أن والده كان يبدو في غاية الراحة والرضى لرؤية ابنه سعيدا هكذا… «أبي انظر إلى الغيوم كيف تتحرك مع القطار وكيف تنكمش، يبدو أنها ستمطر… »، الشيء الذي زاد من تعجب زوج كانا يراقبان تصرفات الشاب باستغراب – كيف يمكن لشاب بهذا العمر أن يتصرف بهذه البلاهة دون أن يشعر بأي إحراج وكأنه طفل صغير؟!- ليشرع الشاب في الصراخ من جديد ما إن لامست قطرات المطر وجهه السعيد: «إنها تمطر..» بادر الرجل بانزعاج واضح واقتحم خصوصية الأب وابنه مستفسرا: لماذا لا تعرض ابنك على دكتور مختص الأمر ليس طبيعيا؟! أجاب الأب بابتسامة: «لقد خرجنا من المشفى للتو، فابني يبصر لأول مرة في حياته».
قصة أستحضرها كلما رأيت أشخاصا يطلقون أحكامهم المتسرعة وربما القاسية على الآخرين، إذ لا يجدون حرجا في تجاوز حدودهم، يمضون في إصدار الأحكام والتسابق إلى إلصاق التهم والنهش في أعراض الغير والنبش في خصوصياتهم بكل وقاحة وكأن أمور الغير جزء لا يتجزأ من أمورهم، وكأن دورهم المطلق في الحياة يتمثل في مراقبة الآخر والحكم عليه…
قضاء الشارع تجاوزات اجتماعية وأخلاقية صارت لصيقة بالمجتمع، بل ازدادت تفاقما بعد الانفتاح على وسائل التواصل الاجتماعي، إذ أصبح الأمر يتعدى الشفهي إلى التوثيق إلكترونيا مع التمادي في الغوص حيث خصوصيات الآخر. ليجد الشخص نفسه بين ليلة وضحاها متهما في ساحة محكمة شاسعة، تطوله الأصابع وتتناقل صوره من يد إلى أخرى مرفقة بتعاليق تمس عرضه، شرفه، نسبه كله.. ونفسيته أيضا… إذ لا يخجل كل قاض من التوغل في ما لايخصه، متبنيا فهما سقيما، منتجا لأحكام مغلوطة والسبب تفكير هزيل ورؤية سطحية للوقائع والأحداث وكذا الأشخاص.. إذ إن الاعتماد على ظواهر الأشياء دون الخوض في معانيها وسياقاتها لهو جمود فكري ينتج عن قلة الزاد المعرفي أو انعدامه..
أتساءل إذا ما لا يفكر هؤلاء في انقلاب الأدوار! ليجد القاضي نفسه مكان المتهم؟ تنهال عليه التهم والأحكام من كل حدب وصوب؟ ثم يوقع عليها جماعة من شاهدي الزور!! أتساءل كيف ستكون نفسية القاضي حينئذ..؟!
عجلة الزمان التي لا تتوقف عن الدوران تنحني بالبعض حيث السلام وترفع البعض الآخر إلى أن تلامس حياته السماء السابعة دمارا!! فلا أحد عين هؤلاء القضاة قضاة ولا أحد أعطاهم حق الحكم، هو سير لحياة يلزمها النضج والوعي، وهي ظروف لا تطول أحدا معينا كما لا تستثني أحدا.
يقول الشاعر:
للناس ظاهر والمظاهر تخدع
فلا تحكمن بالذي ترى وتسمع
فرب صحيح وفكره عليل
ورب عليل وعقله مجمع
عاشر الناس لتدرك أصلها
فحقيقة المرء بالعشرة تسطع.