قصة «موشون».. طبيب أدى مقتله إلى احتلال المغرب
مقاطع ساخنة تُنشر لأول مرة عن أشهر عملية اغتيال سنة 1907
من فرنسا غادر الطبيب «إيميل موشون»، الذي لقبه المراكشيون بـ«موشّان»، في اتجاه مدينة القدس بفلسطين، لكي يكمل أبحاثه المعمقة في مجال مواجهة الأوبئة. ونظرا إلى قامته العلمية وإنجازاته في مجاله، فقد وجهته فرنسا لكي يأتي إلى المغرب، ولقي دعما لكي يستقر في مراكش. وهناك اختار أن يفتح عيادته في قلب حي شعبي في قلب المدينة.
هل اندمج هذا الطبيب أكثر من اللازم في مغرب 1907 الرافض لـ«النصارى»؟
ما يهم الحكومة الفرنسية وقتها أنها نظمت له جنازة مهيبة من المغرب صوب بلاده، وأقامت له نصبا تذكاريا يليق به باعتباره بطلا قوميا. وقبل أن تُهيل عليه التراب، بدأت عملياتها للانتقام لمقتله بخناجر المغاربة الغاضبين من الوجود الأجنبي في بلادهم. وهكذا يمكن القول بثقة إن واقعة هذا الطبيب هي التي أدت إلى كل ما وقع لاحقا في المغرب، بعد ذلك التاريخ.
يونس جنوحي
طبيب أم جاسوس؟
هذا الكتاب لا يمكن إلا أن يكون شهادة كبيرة عن واقعة مقتل المواطن الفرنسي، الطبيب الذي عُرف تاريخيا بالسيد «موشون». الباحث «جوناثان كاتز»، الذي جمع مواده من الأرشيف، لم يكن أمام مهمة سهلة. إذ إن الأمر يتعلق بالتعامل مع ما جُمع من معطيات وشهادات حول واقعة الاعتداء على الطبيب الفرنسي وهو يزاول مهنة الطب بين سكان مراكش، وسط «العرصة» الشعبية التي اختارها للعمل والسكن معا.
هذا البحث التاريخي صدر لأول مرة في جامعة إنديانا الأمريكية سنة 2006، يعتبر أول إماطة حقيقية للثام على ما وقع فعلا لهذا الطبيب الفرنسي يوم العاشر من أبريل سنة 1907. ويفرد الوقائع قبل وقوع الجريمة، وصولا إلى «يوميات» الرحلة التي نُقل فيها نعش الطبيب من مراكش صوب الجديدة، على ظهر الخيل، ومنها إلى مدينة طنجة بحرا، حيث نُظم استقبال مهيب للنعش، ليواصل رحلته البحرية صوب فرنسا، آخر مُستقر لهذا الطبيب «د. إيميل موشون»، أو «موشّان» كما كان يناديه سكان مدينة مراكش.
كيف حدثت الواقعة؟ تزعم بعض المصادر التاريخية أن الطبيب «موشون» كان يعيش حياة هادئة وسط سكان مراكش، وكان يحظى بتعامل خاص، رغم أن الجو العام في البلاد سنة 1907 كان مشحونا جدا، ولم يكن يسمح بإنشاء علاقة إنسانية وطيدة بين السكان وطبيب «نصراني». فقد كانت الأخبار القادمة إلى المغرب وقتها تتحدث عن ممارسات الاحتلال الفرنسي في الجزائر، ومناهضة الدول العربية في المشرق للاحتلال البريطاني.
إلا أنه رغم هذه الظروف كلها، فقد كان «موشان»، بسبب حديثه باللغة العربية وإلمامه بالثقافة الإسلامية، بحكم أنه اشتغل طبيبا في مدينة القدس الشريف قبل أن يتم توجيهه إلى المغرب، يحظى بتعامل خاص.
سرت بعض الإشاعات بشأن حقيقة المهمة التي كان يشغلها، والسبب أنه كان يكثر من الجولات بين الأزقة في الأحياء الشعبية لمراكش، ويحاول التواصل مع الناس. وقيل إنه كان جاسوسا متنكرا في بذلة الطبيب. لكن الفرنسيين لديهم رأي آخر، وقالوا إن «موشون» لم يكن يعمل لصالح الاستخبارات ولا الإدارة، وقدموا أدلة مفادها أن الطبيب كان يشتغل على أبحاث معمقة في علم الأوبئة وانتشار الجراثيم، وهو البحث العلمي الذي بدأه منذ مرحلة الدراسة الجامعية في كلية الطب، وجعله يختار مرافقة البعثة الفرنسية إلى الخارج، بدل العمل طبيبا داخل فرنسا مثل أغلب خريجي الطب.
اهتزت فرنسا لمقتل هذا الطبيب، لأن ما راج وقتها في الصحافة الفرنسية أفاد بأن السبب راجع بالأساس إلى إقدام الطبيب على خطوة لم تكن مدروسة جيدا. فقد عمد إلى تعليق العلم الفرنسي فوق منزله المتواضع الواقع في قلب «عرصة مولاي موسى» العتيقة، وهو ما جعل السكان ينتفضون ضده، ويدخل في مشادات مع مُهاجميه ويُطعن بالخناجر. ورغم محاولات بعض المتدخلين المغاربة، كما سوف نرى في سردية هذا الكتاب الذي صدر باللغة الإنجليزية، إلا أنها كلها باءت بالفشل، ولم يفلحوا رغم السلطات المفوضة إليهم في إقناع الغاضبين بالابتعاد عن الطبيب، إلا بعد أن صار جثة هامدة تماما.
لنتأمل هذا المقطع الذي ننقله إلى العربية لأول مرة، من الكتاب الذي يحمل عنوان: «Murder in Marrakesh»، أي: «جريمة في مراكش». يقول الباحث «جوناثان كاتز»:
«في صباح يوم 19 مارس 1907، كان الحاج عبد السلام الورزازي، الطاعن في السن، ممددا في سريره، بدون حراك، عندما كان المد اللامتناهي من الزوار يتقاطرون على منزله القريب من صومعة الكُتبية. ومع مجيء كل فرد من هؤلاء الزوار، كانت الأخبار التي تصله تزداد سوءا.
أول الذين بدؤوا الحكاية، اسمه العربي بن الساهل، وهو الذي يترأس عرصة مولاي موسى، حيث كانت توجد عيادة ومنزل الطبيب موشون. يقع هذا الحي المكون أساسا من أزقة ضيقة جدا، على الجانب الآخر لساحة جامع الفنا المفتوحة. وكان العربي بن الساهل قد دخل في خلاف بالفعل، في وقت سابق من ذاك الأسبوع، مع الطبيب موشون. فقد قام هذا الطبيب الفرنسي بإنشاء باب لعيادته يُفتح مباشرة أمام ملكية في حوزة بن صالح. والآن، فإن الطبيب يتسبب بمعية أصدقائه في المشاكل مجددا. قال بن الساهل للسيد الحاكم: – لقد رفعوا علما.
بنقل بن الساهل لهذه المعلومة، يكون فقط قد نفذ ما طلبه منه السيد الحاكم، وهو إبقاء كل الأجانب تحت عينيه».
ماذا حدث إذن ما بين يوم 19 مارس، الذي بدأت فيه الشكايات ضد الطبيب الفرنسي الذي رفع علم بلاده فرنسا فوق عيادته الواقعة في قلب أكثر أحياء مراكش تمثيلا للمغرب، وبين يوم العاشر من أبريل الذي صُرع فيه هذا الطبيب، بعد انتفاضة شعبية ضده؟
عندما كتبت الصحافة الفرنسية عن «موشان»:
«قتله الذين عالجهم»
لقد كتبت الصحافة الفرنسية مقالات «عاطفية» جدا عن مقتل هذا الطبيب، وطالبت بالانتقام لروحه. لكن اتضح للفرنسيين بعد سنوات طويلة، أن فرنسا كانت تنتظر واقعة من هذا النوع، لكي تبرر العمليات العسكرية التي باشرتها في المغرب في سنة 1907، قبل إبرام معاهدة الحماية.
هل يتعلق الأمر بواقعة تحركت لأجلها فرنسا، لكي تحافظ على «هيبتها» في شمال إفريقيا، أم باستغلال سياسي لحالة وفاة، سبقتها وفيات أخرى لمواطنين أوروبيين كانوا في المغرب؟
معالجة هذا الإشكال، تتطلب قراءة الكتاب كاملا بكل التفاصيل التي يوفرها. بدأ بالنقاش الساخن في المغرب، والذي رافق عملية إيصال أسلاك التلغرام إلى مدينة مراكش، والمشاكل الأمنية التي تسبب فيها الموضوع، وصولا إلى رصد ما وقع في «العرصة» التي قُتل فيها هذا الطبيب الفرنسي.
فرنسا لعبت على وتر أن الحادث حرم فرنسا والعالم من كفاءة أحد أهم الأطباء، الذين فتحوا أبحاثا في علم التعقيم ومكافحة الأوبئة. لكن الخلاصة التي يمكن الخروج بها بعد قراءة هذا الكتاب، أن الطبيب «موشون» كان ضحية بعض التصرفات غير المحسوبة، في وقت كانت الظرفية السياسية التي يمر بها المغرب دقيقة جدا. سيما وأن المغاربة كانوا متخوفين جدا مما سوف ينتج عن ازدياد أعداد الفرنسيين الذين حجوا إلى المغرب، في فترة ضعف سياسي تمر منه البلاد، بعد وفاة المولى الحسن الأول سنة 1894.
الصحافة الفرنسية قالت إن «موشون» قُتل بيد الذين كان يعالجهم. لكن هذه المعلومة كانت غير دقيقة، إذ إن الغاضبين من سلوك «موشون» لم يكن مصدر غضبهم الوحيد هو رفعه للعلم الفرنسي فوق عيادته، بل كان الأمر يتعلق بأخبار انتشرت في مراكش مفادها أن هذا الطبيب لم يحترم خصوصية المدينة، وحاول فرض وجوده بالقوة، ودخل في نزاع مع بعض سكان العرصة الذين لم يكونوا يستسيغون تردد ضيوف فرنسيين على منزل الطبيب ليلا.
هنا نفرد شهادة مهمة لخادمة الطبيب، والتي نقلها الكتاب:
«خلال ذلك اليوم، أدلت عائشة، خادمة الطبيب، بشهادتها عن الأحداث التي وقعت خارج منزل الطبيب موشون. كانت مشغولة ذلك الصباح بأعمال المطبخ، عندما غادر الطبيب الفرنسي إلى عيادته. الخادم الآخر، الصبي الذي أطلقوا عليه اسم محمد الصغير، انطلق بعد مغادرة الطبيب بقليل، وترك الخادمة وحيدة في المنزل. وما كاد الصبي يغادر، حتى سمعت عائشة صراخا مصدره الشارع.
وبدافع الفضول حاولت فتح الباب، لكنها سرعان ما صفقته بسرعة عندما لمحت أعقاب البنادق موجهة إليها. ولجأت إلى سطح المنزل، لكن الحشد رصدها، وبدؤوا في رشقها بالحجارة، مما تسبب في تحطيم النوافذ. ومن السطح، حاول أحد الجيران تهدئتها، وقال: – ما وقع ليس شيئا ذا بال، لم يحدث شيء سيئ.
واختبأت الخادمة في السطح، وهي تستمع إلى الصياح بعبارات مسيئة للنصارى».
تتمة القصة نُكملها في هذا الملف، الذي ينقل تفاصيل عن أشهر عملية اغتيال في تاريخ المغرب. ورغم أنها كذلك، إلا أن تفاصيلها غير معروفة. كما لو أنها «فأل سيئ» يُحيل على ما وقع في المغرب، بسبب مقتل هذا الطبيب، وما تلا وفاته لكي يصبح بطلا قوميا في فرنسا، ويصنع له نصب تذكاري. والأهم، أن يوفر للإدارة الفرنسية وقتها ذريعة لكي تقنع الرأي العام بضرورة التحرك العسكري في المغرب.
+++++++++++++++++++++++++++++++++
بدون جدوى.. مسؤول بالقصر ناشد الحشود لكي لا تقتل الطبيب
ننقل هنا ترجمة حصرية، لأول مرة، من كتاب «Murder in Marrakesh»، والذي يتناول واقعة اغتيال الطبيب الفرنسي «موشّان».
جاء في هذا الكتاب نقل لشهادة مغربي يحمل اسم «بن براهيم»، كان ممن عاينوا واقعة الاعتداء على الطبيب:
«خارج منزل الطبيب، كان هناك موظف مخزني اسمه سي إدريس خنيشيش، كبير مستشاري الملك في القصر الملكي، كان يناشد الحشد لكي لا يعتدوا على الطبيب، لكن دون جدوى. وعندما أصدر زعماء الحي الأمر بالهجوم، سارع الناس إلى الاستجابة له. إبراهيم التوگاني، الذي كان صرّافا، يعتقد أن أحد العبيد السود، هو من وجه أول ضربة خنجر إلى الطبيب. لكن آخرين قالوا إنهم نالوا هذا الشرف أيضا. وتعرّف الصراف على رجل آخر يُدعى محمد جيبيت، وهو بقال من سكان الحي، كان يحمل في يده هراوة ثقيلة.
التفت نحو إبراهيم، وطلب منه أن يؤكد له المعلومة:
-ألم أكن أنا الذي وجهتُ إليه أول طعنة؟
تذكر إبراهيم أيضا شخصا أصم وأبكم، كان يومئ هو الآخر برأسه، مدعيا أنه لعب دورا في سفك دم النصراني.
وبين أفراد الحشد، بينما كان إبراهيم يتابع الجريمة إلى أن اكتملت، ويظهر ويختفي، ظن أنه رأى ابن الحاكم، وكان اسمه عبد المجيد، بين المتجمهرين.
أما بالنسبة إلى علي بن إبراهيم، الذي كان خادم الطبيب موشان في المستوصف الطبي، فقد فاته أن يكون شاهدا على جريمة القتل فعليا.
فبعد أن أطعم الحيوانات الأليفة التي كان يرعاها الطبيب، ووفر لها الماء، انطلق قاطعا مساحة أرضية خالية، في اتجاه منزل الطبيب. ورأى هناك تجمعا بشريا كبيرا، وسمع أصواتا تتعالى: «الصلاة والسلام عليك يا رسول الله».
هناك، التقى علي، الخادم، مع محمد الصغير، الذي يشتغل مع الباشا، وكان بدوره هاربا من الأحداث. وسأله:
-«ماذا يحدث هنا؟ أين هو الطبيب وأين هو المُترجم؟».
كان موظف الباشا شاحبا ويرتجف. كان أحد ما قد مزق ثوبه بخنجر، وأفلت بلحمه من طعنات محققة.
أجاب محمد الصغير:
-«لم أرهما. لا أعرف. دعهم يقتلونهما».
وانطلق محمد الصغير والمخزني الذي كان يرافقه، باتجاه منزل الحاكم الذي كان يقع بالقرب من مسجد الكتبية.
عندما وصل محمد الصغير إلى منزل الحاكم، أخبره بما رأى. وقال بعد ذلك إن الحاكم عندما سمع القصة بنفسه، أطلق صرخات يائسة لهول ما سمع. فيما واصل ابن الحاكم واسمه محمد، سماع القصة من محمد الصغير. ابن الحاكم، الذي استقبل خبر مقتل الطبيب بلا مبالاة، سبق له أن وبخ محمد الصغير، لأنه أجّر المنزل للطبيب الفرنسي».
هذه الشهادة النادرة، والتي تُنشر لأول مرة، اعتمادا على المصدر الأصلي، توثق دقائق الرعب التي خيمت على مراكش، بعد انتشار خبر مقتل هذا الطبيب.
ما الذي جاء بشاب فرنسي كان أمامه مستقبل أكاديمي واعد جدا في فرنسا وفي الشرق، كما سوف نرى في هذا الملف، إلى مراكش التي كانت حديثة عهد بوجود الفرنسيين فكيف بالأطباء؟
دراسة «الأوبئة» قادت «موشّان» إلى المغرب
بحسب وثائق التعريف الشخصي لإيميل موشون أو «موشّان»، كما كان يلقبه أغلب مغاربة مراكش، فإنه وُلد في مدينة «شالون سير ساون»، شرق فرنسا، في سنة 1870. كان والده مُنتخبا في دار البلدية، وممارسا للعمل السياسي، وكان أيضا عمدة للمدينة. التحق الشاب إيميل، ابن العمدة، بكلية الطب، بعد تفوقه في الدراسة بشكل لافت، وتنبؤ معارفه بأن مستقبلا مبهرا ينتظره.
أنجز «موشان» دراسة طبية اعتُبرت مع بداية القرن الماضي، تحولا كبيرا في دراسة الجراثيم والتعقيم.
هذا النبوغ، جعل إيميل بعد تخرجه مباشرة، يقرر مغادرة فرنسا، بدل أن يفتح عيادة طبية أو يلتحق بالمستشفيات العمومية الفرنسية مثل المئات من أقرانه الخريجين سنويا.
هذا التميز، قاد «موشان» إلى مغادرة التراب الفرنسي وهو بسن الثامنة والعشرين، مباشرة بعد تخرجه، لكي يلتحق بالفرق العسكرية البحرية، ويشتغل طبيبا بها.
هذه الوظيفة لجأ إليها إيميل موشون، لكي تكون نافذة أمامه لاستكشاف المناطق التي تصلها البحرية الفرنسية، خصوصا وأنه كان مهتما بدراسة بعض الأوبئة والأمراض التي انتشرت في جنوب أوروبا وأمريكا اللاتينية، بالإضافة إلى شمال إفريقيا، وعلى رأسها الطاعون والكوليرا.
توجد مصادر تاريخية تؤكد أن الطبيب إيميل موشون، كان أحد كبار الأطباء الباحثين الذين اشتغلوا على انتشار وباء «التيفويد» في اليونان، واعتبر توجهه بعد ذلك إلى المغرب خسارة للبحث العلمي في أوروبا.
لكن أكثر ما يجعل مسار هذا الطبيب لافتا وغير عادي، أن بعض المصادر الفرنسية أكدت أنه استقر لفترة ما في مدينة القدس بفلسطين، واشتغل في المستشفى الرئيسي للمدينة ما بين سنتي 1900 و1905، وانكب على علاج حالات الإصابة بالطاعون.
ومن القدس مباشرة، غادر الطبيب إيميل موشون، بتوجيهات من الإدارة الفرنسية التي اختارت أن تنقله إلى المغرب، وأرسلته بالضبط إلى مدينة مراكش.
المؤهل الذي جعل الطبيب الشاب، الذي كان بالكاد قد بدأ عقده الثالث، يكون على رأس قائمة الأطباء الذين اختارتهم فرنسا لهذه المهمة، إلمامه بالثقافة الإسلامية ومعرفته باللغة العربية، وهو ما سهل التواصل بينه وبين المراكشيين منذ الساعات الأولى لوصوله إلى المدينة.
كانت مهمته الإشراف على عيادة طبية، ودراسة الأوبئة التي كانت تنتشر وقتها في المغرب.
عندما وصل «إيميل موشان» إلى المغرب، فإنه لم يكن أول طبيب يزاول المهنة فوق التراب المغربي، بل كان هناك أطباء سبقوه في مراكش وفي مدن أخرى مثل فاس وطنجة والدار البيضاء، وبعض هؤلاء الأطباء الذين سبقوه إلى المغرب كانوا من الجنسية الفرنسية.
لكن ما ميز الطبيب إيميل موشون عن بقية الأطباء الأوروبيين الذين حلوا في المغرب، أنه كان يتحدث اللغة العربية، ويخالط السكان، مستغلا مواهبه الاجتماعية في استمالة السكان، علما أن الوضع في المغرب وقتها لم يكن مشجعا نهائيا على اختلاط الأجانب بالمغاربة.
ففي الأسابيع الأولى من سنة 1905، سُجلت حالات اعتداء على أوروبيين، فرنسيين على وجه الخصوص، فقط لأن خطاب الكراهية ضد الاحتلال الأجنبي كان منتشرا جدا بين المغاربة. إلا أن هذا كله لم يُثن الطبيب «إيميل موشون» أو «موشّان»، كما تناقل المراكشيون اسمه، عن الاختلاط مع المغاربة، حتى أنه اختار أن يسكن وسطهم، وليس في الحي المخصص لأوائل الرعايا الفرنسيين في مراكش، من عسكريين وموظفين، وسكن في زقاق مراكشي ضيق، بين سكان المدينة العتيقة.
النصراني الذي خالط المراكشيين..
هل كان هذا الاختيار موفقا؟ ربما لم يكن في مصلحة هذا الطبيب الشاب أن يختار قلب الأحياء الضيقة لمراكش، لكي يستقر في أحد بيوتها الصغيرة والمتواضعة.
ربما كانت العقلية التي جاء بها إلى المغرب، قادما من المشرق، هي التي شجعته على مخالطة المغاربة بتلك السرعة.
لكن الوضع في المغرب وقتها كان مختلفا تماما، حيث عرفت سنة 1905 أحداثا مشحونة، وسرت أخبار مهولة عن عواقب التدخل الأجنبي في بلدان الشرق، وآخرها الجزائر التي كانت تحت رحمة الاحتلال الفرنسي.
هذه التطورات، كانت وراء اتهام الطبيب «موشون» بالجاسوسية، إذ إن المراكشيين وقتها لم يألفوا وجود أجنبي يتحدث العربية، ويلم بالثقافة الإسلامية، وفوق كل ذلك يبادر إلى علاج المرضى بالمجان في أغلب الحالات. إذ إن أغلب الذين كانوا يترددون عليه لم يكونوا من الأجانب، وإنما من الأعيان المغاربة. وبحكم أنه كان منكبا على دراسة الأوبئة، التي تدخل في صلب أطروحته العلمية التي نال بها التميز في فرنسا وهو في سن الثامنة والعشرين فقط، ونُشرت له في نشرات علمية مرموقة، فقد واظب على تفقد أحوال عيش المغاربة، سيما داخل المساكن، وقام بدراسات مهمة في هذا الجانب لرصد أسباب انتشار الأوبئة، وفحص مياه الشرب في مدينة مراكش على وجه الخصوص.
كل هذه الأنشطة جعلت المراكشيين يتوجسون منه في البداية، لكن نجاحه في علاج حالات كثيرة، خصوصا الحمى، جعل شعبيته ترتفع في مدينة مراكش.
لكن أقوى ما جعل المراكشيين ينفتحون عليه، هو إقدامه على خطوة شراء عبد من السوق لكي يقوم بخدمته، متشبها ببقية الأعيان في مراكش، والذين كانوا يواظبون على شراء العبيد والخدم.
تشبه الطبيب إيميل «موشان» بالمغاربة، جعله يحظى بشعبية، سرعان ما اتضح أنها سلاح ذو حدين فعلا.
لم يكن سهلا على طبيب لامع في فرنسا وفي الشرق أن يبدأ حياة جديدة في مراكش، التي كان يحكمها وقتها الحاج المدني الكلاوي، الذي كان مشهورا بعدائه لفرنسا قبل سنة 1912. كان هناك نوع من الرفض الكامل للوجود الأجنبي في المغرب، وزاد من انتشاره انتفاض العلماء في مراكش وفاس على وجود «النصارى» في المغرب، ولم يكن يخفى على الطبيب إيميل أن هناك فقهاء في مراكش كانوا يقصدونه شخصيا، فيما يخطبون في الناس أنه لا يجب مخالطة الفرنسيين. لكن تردد الإقطاعيين في فاس وكبار تجارها وأعيانها على الأجانب، سيما الفرنسيين والبريطانيين، جعل حدة هذا الرفض تخبو نوعا ما، خصوصا مع وجود شخصيات مغربية كبرى تعاملت مع الأجانب.
كان إيميل «موشان» يوجد في منتصف عُقدة حبل الصراع بين المغاربة بشأن التعامل مع الأجانب. لكن واقعة رفع العلم الفرنسي فوق عيادته، والتي قيل إنها الواقعة التي أودت بحياته، كانت النقطة التي غيرت كل شيء، بل إنها كانت العامل الذي قلب المشهد السياسي في المغرب، وجعل فرنسا تتحرك انتقاما لهذا الطبيب، الذي لقي مصرعه في قلب مدينة مراكش.
عندما كانت «حوادث» مقتل الأطباء في المغرب «عابرة»
«عندما أنهى الحاجب كلامه تثاءب أمامي بكسل، وفهمت أنه تحدث إلي على مضض، لأنه كان لا يحب الحديث إلى نصراني. فهمت الإشارة وغادرت القصر على الفور، وما إن غادرت البوابة الخارجية حتى التقيت بالدكتور «فاسيل»، رفقة بن غبريط، حيث كان ينتظر لساعات ليسمح له بلقاء السلطان. هذان الرجلان كانت لديهما مهمة مشتركة، ولم أحسدهما عليها أبدا.
الدكتور فاسيل رجل وسيم وأنيق، ويشغل منصبا حساسا، لكن المنصب كان لا يناسب المهمة التي أوكلت إليه. لكنني أعتقد أنه الرجل الأنسب للقيام بالمهمة. أرسلته ألمانيا إلى فاس لكي يبحث لها عن موطئ قدم في بلد سقط فيه سلطان ونصب مكانه آخر، وكانت مهمة الألمان عسيرة وتزداد صعوبة بمرور الوقت».
الكلام هنا للصحافي البريطاني لاورنس هاريس، ويتحدث فيه عن واقعة وصول الطبيب الألماني «فاسيل» إلى القصر الملكي في فاس، عارضا خدماته على السلطان سنة 1908. وهذا السياق كان شائكا جدا، فقد سبق وصوله إلى المغرب، وصول أطباء آخرين لم يحظ بعضهم بأي استقبال شرفي من طرف السلطان، خصوصا الفرنسيين منهم.
كما أن هؤلاء الأطباء كانوا موضوع عمليات اعتداء في الشارع العام. وقد ذكر هذا الصحافي واقعة أثناء مبايعة السلطان عبد الحفيظ في فاس، حيث عاين بنفسه وجود طبيب فرنسي كان قد وصل لتوه إلى المغرب، مصطحبا معه زوجته. وبحكم أنه كان جاهلا بالتقاليد المغربية، فقد ظن أن وجود زوجته معه برأس مكشوف في مكان عام يبقى أمرا عاديا. لكن سرعان ما نبهه رجال المخزن، الذين كانوا يسهرون على مرور موكب السلطان، إلى أنه يخاطر بسلامة زوجته، وأنه يتعين عليه عدم إحضارها معه إلى التجمعات.
كان تعامل المخزن مع حوادث مقتل الأجانب، سيما الأطباء، «غير حازم». وهو الحكم الذي تداولته الصحافة البريطانية منذ سنة 1894، تاريخ وفاة المولى الحسن الأول. إذ إن أعدادا من الأجانب ماتوا في المغرب على إثر عمليات اعتداء، احتجاجا على الوجود الأجنبي في المغرب.
ورغم أن وجود الأطباء في المغرب يعود إلى ما قبل هذا التاريخ، إلا أن عمليات الاعتداء على الأطباء الأجانب لم تتخذ البُعد السياسي لها، إلا بعد مقتل الطبيب الفرنسي إيميل «موشان». لتكون واقعة مقتله، واحدة من الأحداث التي غيرت مسار الأحداث كليا في المغرب.
توجد إشارة إلى أحد الأطباء الإسبان، ذكره مختص يهودي مغربي جمع شهادات قديمة بخصوص أجواء الملاح اليهودي في فاس قديما، وقال إن أحد الأطباء الإسبان كان قد قام بزيارة إلى مدينة فاس، متخفيا لدواعي أمنية أيام المولى الحسن الأول، وكان أحد أعيان فاس قد طلب منه علاج أحد التجار اليهود، لكنه لم يقو على تنفيذ المهمة خوفا على حياته، لأن دخول الملاح كان محظورا على غير اليهود.
وقد أشار المصدر الصحافي نفسه إلى هذه الواقعة، حيث كان يوجد في مدينة فاس عندما اندلعت بعض المواجهات، وأصيب على إثرها بعض يهود الملاح، ما بين سنتي 1908 و1909، بجروح وبقوا داخل الملاح. لكن الطبيب الإسباني الذي كان الطبيب الوحيد المتوفر وقتها، لم يكن يملك الجرأة الكافية لدخول حي الملاح لتوفير العلاج للمصابين.
وسبب هذا التخوف، حوادث الاعتداء على الأطباء، في حالات التدخل المماثلة عندما تتوتر الأجواء داخل المدن. ورغم أن أعداد الأطباء في المغرب قبل سنة 1912، كانت أقل بكثير من أعداد الدبلوماسيين والقناصلة والموظفين المكلفين بالمهام في المغرب، إلا أن حجم الإصابات والحوادث التي أصيب فيها الأطباء، أثناء مزاولتهم لمهنتهم في المغرب، يبقى لافتا فعلا.