شوف تشوف

الرأي

قصة مرض (الإفرنجي) في التاريخ

بقلم: خالص جلبي
مع كتابة هذه الأسطر يعيش العالم حالة خاصة قلما تحدث عبر العصور، وهي انعقال الناس وحبسهم في بيوتهم خوفا من فيروس لا يرى إلا مكبرا مائة ألف مرة، فهو من حجم النانو (النانو هو واحد من مليار من المتر). وجائحة كورونا (فيروس «كوفيد- 19») الذي لا يتجاوز قطره 200 نانو، كانت أول حالة إصابة تم العثور عليها في 17 نونبر 2019، وفي 11 مارس 2020 أعلنت منظمة الصحة العالمية أنها جائحة. ويعرف عدد التكاثر الأساسي للفيروس بين 1.4 و3.9، وهذا يعني أنه من المتوقع أن تؤدي كل إصابة من الفيروس إلى 1.4 إلى 3.9 إصابات جديدة، عندما لا يكون هناك أفراد في المجتمع معهم مناعة، وفي غياب اتخاذ تدابير وقائية.
وما يهمنا هو طمـأنة القارئ من جهتين، أنها ليست الجائحة الأولى في التاريخ، وأن الجنس البشري يقبل التحدي ويهزمه في النهاية، وهو ما حصل لمرض الزهري، ولكن تطلب الأمر أربعة قرون! ولذا فمن المثير عرض القصة على القارئ للمقارنة والموعظة.
كانت بداية المرض مرتبطة بواقعة عسكرية تافهة تتكرر كثيرا في ميادين القتال في أوربا، حيث تحرك الملك الفرنسي كارل الثامن في محاولة للاستيلاء على مدينة (نيابل) في إيطاليا، بجيش يضم خليطا متنافرا من المرتزقة (إسبان، هولنديون وألمان….الخ) قوامه 30 ألف جندي، وفي مؤخرة الجيش 500 امرأة للتروية الجنسية لشبان جامحين. ويروي لنا التاريخ أن هذه الحملة التي مارست المتعة الجنسية بغير حدود في رحلتها، وولد المرض (Syphilis) بانفجار مروع بين الجنود المرتزقة فنشروه حيث مشوا. وبعد خمس سنوات من هذه الحملة، في عام 1498م قضى الملك (كارل الثامن) نحبه عن عمر يناهز 28 سنة بهذا المرض الجديد (الزهري). وابتدأت بعد ذلك رحلة معاناة رهيبة لهذا المرض، فلم يترك شريحة اجتماعية إلا وأصابها بشكل متفاوت، في ظل انعدام العناية الصحية، ومعرفة كيفية انتشار الأمراض، وتخلف الطب. كل هذا مترافق مع الإباحية الجنسية جنبا على جنب؛ فحيث العربدة والخيانة الزوجية تفشى المرض، وحيث النظافة الأخلاقية والعائلات المتماسكة عف عنها وابتعد.
وبقي المرض يقوم بهجمات منتظمة طوال أربعة قرون! فأصيب به بعض الباباوات مثل (ألكسندر السادس) و(يوليوس الثاني) و(ليو العاشر)، ونظرا لانتقاله عبر المشيمة فقاد إلى تحولات تاريخية، كما هو في ملك بريطانيا (هنري الثامن) الذي فقدت زوجته أربعة أطفال من الذكور؛ فعزم على الزواج من امرأة أخرى، وهو ما لم تسمح به الكنيسة الكاثوليكية؛ فقام بنقل المذهب البروتستانتي إلى بريطانيا، فكان مرض الإفرنجي خلف التحول الديني في بريطانيا، بل والقاعدة الصناعية لما بعد؛ على ما حرره فيلسوف الاجتماع (ماكس فيبر)، الذي ربط بين الانطلاقة الصناعية في أوربا وانتشار المذهب البروتستانتي في كتابه «روح الرأسمالية والأخلاق البروتستانتية»، باعتبار وجود مقومات عقلية خاصة في الوسط البروتستانتي من روح المبادرة والروح العملية وتقدير العمل والكسب.
ولا يستبعد أن يكون جنون الفيلسوف الألماني (نيتشه)، صاحب كتاب «هكذا تكلم ذرادشت»، وصاحب مبدأ العود الأبدي، من خلف حمل أمه هذا المرض، وإننا نحزن عندما نسمع عن صمم الموسيقار بيتهوفن بسبب إصابته أيضا بهذا المرض، وعشرات شتى من المفكرين والرسامين والمبدعين والفلاسفة كلهم أصابهم المرض فدمرهم أو أقعدهم، مثل الرسام (ريتل) والشاعر (هاينه)، والفيلسوف إيراسموس، (صاحب المدرسة الإنسانية)، و(زولا) و(فلاوبرت)، وأصاب ملوكا من مثل (فرانس الأول)، ملك فرنسا، و(كريستيان السابع)، ملك الدانمارك، وقيصر روسيا (إيفان الرهيب)، في الوقت نفسه الذي نتعرف على موت فيلسوف الحداثة الفرنسي (ميشيل فوكو)، الذي قضى نحبه عن عمر لا يتجاوز 50 سنة بمرض (الإيدز).
بين عامي 1493م و1928م مضت أكثر من أربعة قرون، قبل التمكن من كشف اللثام عن طبيعة مرض الإفرنجي (مقارنة بالإيدز في أربع سنين)، ووجدوا أن أفضل طريقة لتفسير المرض، هي اتهام الهواء أو النجوم والأبراج، حتى تمت القفزة النوعية العلمية مع مطلع القرن العشرين، سواء في التشخيص أو العلاج، ونظرا لأن جرثومة المرض تنتقل عن طريق الشرايين فإنها لا تترك جهازا نبيلا إلا وتعطبه؛ فهي تعمل الصمغ (شبيه الورم) في الدماغ، والنخر في العظام؛ فتسبب الجنون العام في الأول، والآلام الليلية المبرحة في الثاني، والتقرحات في الأعضاء التناسلية.
في عامي 1904 و1906 حصل تطوران رائعان بالتتالي، على يد كل من العالم النباتي (فريتز شاودين) و(فاسرمان = رجل الماء)، حيث كشف الأول عن المتسبب في إحداث المرض، واستطاع الثاني أن يضبطه بتفاعلات خاصة للدم، وظهرت جرثومة المرض تحت المجهر، كأنها الخيط الطويل الملتوي، أو أفعى هشة، ضعيفة ولكنها خبيثة ممرضة (اللولبية الشاحبة Treponema Pallidum)، وهي كائن جرثومي أعلى من فصيلة البكتيريا، حيث وجد أن العناصر الإمراضية تندرج من الفيروسات وتنهي بالكائنات العليا من الفطور والحشرات. وبتفاعل (واسرمان) أصبح التفاعل الإيجابي يعني الفضيحة الجنسية لحامله وممارسة الحرام.
وفي ميدان العلاج حصلت تطورات ثلاثة رائعة، الأول دشنه العالم (باول إيلريش) حيث قام بما يزيد عن 600 تجربة على الأصبغة حتى وصل إلى مركب خاص في المحاولة 606، السادسة بعد الستمائة ومعها جاء الفرج، فوجدها تقضي على الجرثومة كما تفعل (الرصاصة القاتلة).
واكتشف الطبيب النمساوي (يوليوس فاغنر) ظاهرة ملفتة للنظر، بتراجع ظاهرة المرض، مع تعرض المريض لحرارة عالية؛ فانقدحت في ذهنه فكرة جريئة مفادها إشعال وقود صناعي داخل الجسم، بإحداث نوبات حرارية متلاحقة، بتعريض المريض لمرض (الملاريا) مثلا؛ فلعلها بهذا الحريق الداخلي، أن تحرق مرض الإفرنجي الفظيع؛ فإذا تعافى من الإفرنجي أمكن معالجة الملاريا بمواد (الكينا) بعد ذلك.
لقد نال الدكتور فاغنر جائزة نوبل في ما بعد على أبحاثه الجريئة هذه، قبل أن يصل (فليمنغ) إلى الضربة النهائية، التي طوت صفحة مرض الزهري باكتشاف المضاد الحيوي البنسلين، الذي هو (عفن).
وهكذا سلط فليمنغ (العفن) على (العفن) لينجو (البدن)، وهي قصة شيقة في محاولة الإنسان الدائبة للقضاء على المرض.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى