قصة رحلتين قام بهما محمد علي كلاي إلى المغرب
توفي الملاكم العالمي، محمد علي كلاي، مساء الجمعة الماضي، بعدما توقف جهازه التنفسي بسبب مضاعفات مرض الباركنسون. البطل الأسطوري، الذي لفظ أنفاسه الأخيرة في مستشفى بمدينة فينيكس في ولاية أريزونا، زار المملكة مرتين الأولى سنة 1972 والثانية سنة 1996. «الأخبار» تعود إلى هذين الحدثين لترسم الأجواء التي استقبل فيها المغاربة محمد علي كلاي، الذي حضر الأمير سيدي محمد، ولي العهد آنذاك، مباراة استعراضية له خلال الزيارة الأولى، أما خلال الزيارة الثانية فقد حرص الملك الراحل الحسن الثاني على وضع برنامج متنوع للضيف الكبير، سيما أنه حل بالمغرب من أجل مبادرات إنسانية.
يحفظ الجيل الثاني العلاقة الوجدانية التي جمعت الملاكم محمد علي كلاي بالمغرب، إذ زاره في مناسبتين، وهو البلد العربي الوحيد الذي حظي بذلك مرتين بعد العربية السعودية، كما يحفظ الحكم الدولي المغربي العربي هواض، في حديثه لـ «الأخبار»، عن علاقة كلاي بالمغرب، الكثير من الذكريات، وهو الذي أسندت له مهمة تحكيم نزال محمد علي في الملعب الشرفي بالدار البيضاء، إلى جانب رجال عايشوا الحدث عن قرب كالعضو الجامعي السابق مصطفى كندالي ورئيس جمعية قدماء نجوم الملاكمة محمد المحجوبي باعتبارهم شهودا على عصر الملاكمة الزاهي.
زيارة تاريخية ومباراة استعراضية
لم يتمكن الملك الحسن الثاني من لقاء الملاكم العالمي محمد علي كلاي، رغم أن المرحوم كان وراء دعم فكرة زيارة بطل العالم للوزن الثقيل إلى المغرب، فقد شاءت الظروف السياسية أن يحل بالدار البيضاء في 29 يوليوز من سنة 1972، ثلاثة أيام بعد مغادرة الحسن الثاني للمغرب صوب فرنسا على متن الباخرة ليعود بعد أسبوعين على متن طائرة البوينغ ويتعرض في الأجواء المغربية لغارة جوية تبين أنها انقلاب مدبر من طرف سلاح الجو المغربي كان يستهدف الملك الراحل، في ما يعرف بعملية البراق.
كان المغرب يعيش في هذه الفترة نوعا من الاحتقان السياسي، فقد أخبرت المخابرات الفرنسية الملك الموجود حينها في الجنوب الفرنسي بوجود تحركات في الجيش، فقرر العودة مسرعا عن طريق الجو، كي لا يعيش مأساة مشابهة لانقلاب الصخيرات، لكن اهتماما كثيرا من المغاربة لم يكن منصبا حول الاختناق السياسي، بل كانوا يعيشون نشوة زيارة تاريخية لمحمد علي كلاي أسطورة الملاكمة العالمية إلى المغرب.
في صبيحة يوم الجمعة 29 يوليوز، كانت حرارة مطار «النواصر» تتجاوز 34 درجة، لكن هذا الطقس لم يحل دون تهافت مئات الرياضيين إلى المطار لتحية البطل العالمي، وكان على رأس المستقبلين عامل الدار البيضاء مولاي العربي العلوي، وأرسلان الجديدي، وزير الشغل والشبيبة والرياضة، ومحمد التبر، رئيس الجامعة الملكية المغربية للملاكمة.
وجد رجال الدرك الملكي والفصائل الأمنية صعوبات في تدبير تنقل الملاكم الأمريكي المسلم، من المطار إلى فندق المنصور مقر إقامته، فقد وقفت حشود المواطنين على امتداد الطريق الرابط بين النواصر والدار البيضاء لتحية محمد علي الذي استقبل استقبال الزعماء السياسيين.
كان الضيف الرياضي الكبير مرفوقا بطاقمه التقني والإداري وعلى رأسهم مدربه أنجليتو دوندي ذو الأصول الإيطالية، وبمنظم المباراة الاستعراضية التي خاضها في الدار البيضاء، والمرافق الخاص جورج كونتير، لكن ملاكما يهوديا من أصول مغربية يدعى ماكس كوهين كان مهندس المباراة الاستعراضية، علما أن هذا الأخير خاض سنة 1961 مباريات البطولة العربية بالدار البيضاء بقميص المنتخب المغربي وحاز على ميدالية ذهبية، كادت أن تنسف التظاهرة بعد اعتراض مصر وتهديدها بالانسحاب.
قضى كلاي أربعة أيام في المغرب، حيث حظي بحفل عشاء ترأسه ولي العهد آنذاك، الأمير سيدي محمد، كما زار محكمة حي الأحباس والمعلمة التاريخية للحي، وتفقد السوق الشعبي لحي «الحبوس» حيث تعرض منتوجات الصناعة التقليدية، وتفقد أيضا الملعب الشرفي الذي احتضن المباراة الاستعراضية التي خاضها ضد ملاكم مالي مشاكس يدعى باكايوكو سونكالو. كان الهدف من المبارزة الاستعداد لمباراة قوية كانت ستجرى بعد شهر ضد الملاكم فلويد باتيرسون، والتي مكنت كلاي من المحافظة على لقب بطل الوزن الثقيل باتحاد أمريكا الشمالية للملاكمة، للسنة الثانية على التوالي. اختارت الجامعة الملكية المغربية الحكم الدولي المغربي العربي هواض لتحكيم الحدث العالمي بالرغم من طابعه الودي، فيما أسندت لحكم دولي مغربي آخر يدعى الطيب تدبير مباراة رفع الستار.
يقول العربي وهو يستحضر هذا الحدث الرياضي التاريخي: «كان الملعب الشرفي مملوءا عن آخره، رغم أن سعر تذاكر الدرجة الأولى بلغت 400 درهم، وهو مبلغ كانت له قيمته في بداية السبعينات، امتلأت المدرجات وأرضية الملعب بالرغم من الطابع الاستعراضي للمواجهة، وكنت سعيدا بتعييني حكما لهذا النزال لأن تحكيم مباراة يوجد كلاي طرفا فيها لا يتأتى لأي حكم، ولأن ولي العهد آنداك الأمير سيدي محمد كان في صفوف المتفرجين، كنت أتحرك فوق الحلبة لأن كلاي كثير التحرك لا يستقر في موضع، استنادا إلى طريقته في اللعب التي تجعله يتحرك كالفراشة ويلسع كالنحلة، ولأن النزال ودي واستعراضي فقد استمتع الجمهور الحاضر بالفنيات العالية للبطلين معا، وفي نهاية الجولة الأخيرة رفعت يديهما معا للتأكيد على أن المواجهة ودية. مازلت أحمل قصاصات صحف أمريكية وهي تحمل صورتي فوق الحلبة وأنا أدير مواجهة لا تنسى».
قضى الملاكم العالمي أربعة أيام في الدار البيضاء، وفي اليوم الأخير، حصل خلاف بين منظم النزال والتلفزيون الإسباني الذي نقل المواجهة مباشرة، حيث طلب الأول من القناة الإسبانية أداء مبالغ مالية نظير استفادتها من حقوق نقل مواجهة تاريخية، خاصة وأن القناة نفسها قامت ببيع حقوق النقل لدور السينما المغربية التي حولتها على شريط عرض على شاشاتها ولقي إقبالا منقطع النظير.
في مؤتمره الصحفي، كان الجميع يعتقد أن البطل سيتحدث عن المنافسات التي تنتظره، وعن سر اختيار المغرب لتحضير نزال هام، لكن خطابه كان مشبعا بالقيم الروحية، إذ تحدث محمد علي كلاي عن نفسه قائلا: إنني ولد وحيد، لم أرتكب خطأ في حياتي، ولم أدخل السجن، ولم أقدم لمحكمة، ولم أنضم إلى جماعات متطرفة، ولا أُعير النساء البيض اللاتي يحاولن إغوائي أي اهتمام، ولا أفرض نفسي على الناس الذين لا يريدونني، وأحب الناس البيض وأحب ناسي السود وأعتقد أنهم يمكن أن يعيشوا معا دون أن يتحرش بعضهم ببعض».
شعور روحاني بمسجد الملك
تختلف زيارة محمد علي كلاي الثانية للمغرب سنة 1996 عن نظيرتها لسنة 1972، فقد كان الوضع السياسي مستقرا إلى حد ما، لذا حرص العاهل الحسن الثاني على وضع برنامج متنوع للضيف الكبير، خاصة وأن محمد علي كلاي حل بالمغرب من أجل مبادرات إنسانية وليس لمواجهة خصم على الحلبة كما حصل سنة 1972، بل إن الرجل لم يكن في كامل لياقته البدينة، إذ أعلن قبل سنتين عن سفره أنه مصاب بداء «باركنسون» الناتج عن فشل في وظيفة الجهاز العصبي المركزي، أو ما يسمى بمرض الشلل الرعاش.
كان في استقبال الضيف المسلم، إلى جانب بروتوكول العمالة والجامعة الملكية المغربية للملاكمة برئاسة بليوط بوشنتوف، البطلة المغربية نزهة بيدوان التي تحتفظ بهذه الذكرى، وتقول في تدوينة مرافقة لصورتها في المطار: «كنت محظوظة حين تم تعييني لاستقبال البطل العالمي الكبير في الملاكمة محمد علي كلاي، في آخر زيارة له للمغرب، إنها لحظات سعادة حقيقية مليئة بالمشاعر الفياضة، أتذكر هذه اللحظة السحرية وأتقاسم معكم صورة حفل الاستقبال للذكرى».
لكن الاستقبال الرسمي خصص لكلاي في القصر الملكي، حين استقبل من طرف الملك الحسن الثاني الذي وشحه بوسام الشرف الذي يعتبر أرفع الأوسمة المغربية، كما خصصت اللجنة الوطنية الأولمبية حفلا على شرف محمد علي بحضور الجنرال حسني بن سليمان رئيس اللجنة والبطلة نوال المتوكل التي كانت حينها كاتبة للدولة في الرياضة، بحضور مستشار الملك أندري أزولاي وتم خلال الحفل استقبال منتخب التيكواندو النسوي المتوج عالميا.
وكان كلاي شارك العاهل المغربي ونجليه سيدي محمد ولي العهد والأمير مولاي رشيد في احتفالاتهم الرمضانية، كما زار دار الأيتام التابعة لجمعية «بطل القرية العالمية» الخيرية التي أنشأها. كما قام بزيارة مؤسسة بيتي للأطفال في وضعية الشارع، وحضر نشاطات رياضية منها مباراة ودية في كرة القدم خاضها منتخب المغرب ضد منتخب أنغولا، حيث خطف أضواء الجماهير وساعد على امتلاء مدرجات الملعب بالجماهير التي ضربت عصفورين بحجر، مشاهدة الفريق الوطني وتحية البطل العالمي للملاكمة. وزار مدينة فاس وتوقف كثيرا في مسجد القرويين.
وقبل مغادرة المغرب حرص محمد علي على زيارة مسجد الحسن الثاني بالدار البيضاء، وكتب في دفتره الذهبي بخط مرتبك، «أشعر بالاطمئنان وأنا في هذا الصرح الديني»، مشيدا بالمعلمة التي لم يكن قد مر على افتتاحها سوى خمس سنوات.
التقى كلاي بكثير من شباب الدار البيضاء، وتحدث بمساعدة من مترجمه، عن الإسلام وعلاقته الوطيدة بالعمل الخيري، محاولا تصحيح الصورة الخاطئة التي رسخت في أذهان الغرب عن الإسلام والمسلمين، وقال عقب مغادرته المسجد، إنه «يشعر بشعور روحاني لأول مرة منذ وصوله إلى المغرب، عندما دخل مسجد الحسن الثاني».