قصة المليار الذي سارت بذكره الركبان
كما الطيور، الأسماء والأوصاف على بعضها تقع. ومن سوء حظ المدير العام الأسبق لشركة الخطوط المغربية الذي اسمه مكوار، أن الحرف الأخير من نعته العائلي ينتهي بالراء، مثلما في رقم المليار. لذا انفجرت الفضيحة أمام البرلمان مدوية تحت مسمى «مكوار والمليار».
لو علم المدير إياه بتراتبية الإيقاع الذي دفع بمطربين شعبيين إلى الإنشاد على البحر مقترنا بالهجر أو الصبر، لضمان القافية في السجع والرصع.. لكان لجأ إلى استبدال اسمه للحيلولة دون استعمال تفعيلته، مكوار مقابل مليار، حتى لا تبقى على وزن فعلان.. إلا أن الأسماء ترتقي أو تخفت على قدر الأفعال لا الأقوال، يوم كانت للمعارضة أسنان تعض بها وبلاغات تهجو بها ومواقف يُعتد بها.
تابعت مرافعات البرلمان التي غاب عنها المتهم رقم واحد، وحضر ظله، من دون أن يجرأ أي من نواب الغالبية على الدفاع عنه، لأن الاتهام كان صدر، ولم يبق إلا النطق بالحكم سياسيا وليس قانونيا. وعلق زميل مشرقي كان في زيارة إلى المغرب، قائلا: لو أدرك ميسورون في الوظائف الرفيعة أن رقم المليار يثير كل هذا التلازم في اللفظ والميزان، لاستبدلوه بكلمة «بليون» التي تعني الرقم ذاته، مع فارق استعارة الحروف.
غير أن المال الذي قيل فيه منذ زمان إنه يشق البحر، لا تتغير نكهته، لأن علامات النعمة الحديثة تفضحه. وسواء احتسبت مبالغه بالدنانير أو المثقال، أو برصيد الذهب أو بالأرقام التي يتهجى فيها الفقراء. فهي واحدة في كل زمان ومكان. وفعلها تاجر من الرباط كان أصدر شيكا بلا رصيد بمبلغ كبير. فقد واجهه وكيل الملك بالتهمة التي تشمل صك رصيد مالي غير موجود. فما كان منه إلا أن طلب الشيك ليتأكد من سلامة توقيعه. وفي لحظة برق، رمى بالورقة إلى فمه، ثم مضغها مثل الطعام، وهو يقول: أين شيك الإثبات؟ ونسي أنه أضاف إلى رصيده في الاتهام إتلاف وثيقة إدانة.
ويبقى، بعلاقة مع قصة المليار، أن «البليون» الذي يزيد على المليون دولار، يسيل اللعاب. وعندما كان سكان المغرب لا يزيد عددهم عن عشرة ملايين، ردد سياسيون في معرض التبشير بالخيرات القادمة التي سيعم خراجها جميع الناس، بأن أي مغربي، صغيرا كان أم كبيرا، سيجد تحت وسادته كل صباح مبلغ ألف فرنك، من دون أن يتعب أو يشتغل. واحتسب فضوليون هذه الأرقام ليخلصوا إلى أن حيازة مليون لن تتطلب أكثر من عشر سنوات. أما المليار فبينه والعباد الذين يمشون على الأرض راجلين، مسافة بعد الأرض عن السماء. وعرفت صديقا في فاس كان يبدي أسفه إزاء ما فعله حرف النون الذي حال دون أن يصبح من أصحاب الملايير. فقد كان اسمه المنيار. ورغب لو أن اللام عوض النون، وإن في أحلام اليقظة. وكان يقول عندما يروي ظمأه: ما حاجتنا بالمليار وبعض المال يكفي في الستر والعفاف؟
هي التمنيات جد في جد، وإن اعتراها الخيال. ولم يكن ثمن سيارة «الإيركاط» يتجاوز نصف المليون فرنك. وهناك من اقتنى شقة بأقل من هذا المبلغ، يوم كان الأساتذة المتدربون في المدرسة العليا يتلقون منحة شهرية تقدر بستة آلاف ريال، أي ثلاثين ألف فرنك، قبل أن يدخل زمن السنتيم والدرهم، ثم الدولار والجنيه الإسترليني. أما البسيطة الإسبانية، فقد كان ينطبق عليها المثل «احسب يشيط لك» لشدة رخصها. ولما انضم الإسبان وجيرانهم البرتغاليون إلى السوق الأوروبية المشتركة، أمضوا بعض الوقت يتعاملون بالبسيطة، إلى أن جاء زمن «الأورو» مقترنا بالوحدة الأوروبية. ولم يثبت أن أي تجربة اتحاد إفريقي أو عربي اهتمت بوحدة العملة.
مليار مكوار الذي تبارى نواب المعارضة في تعداد فوائده على التنمية المحلية والجهوية، ليس مثل مليار اليوم الذي بخست المضاربات العقارية من سومته. فالمال إن كان زائدا عن الحاجة واللزوم أصبح مثل اللباس الذي يكون أكبر ممن يرتديه، إذ يبدو فضفاضا ومهلهلا. وإن كان أقل من الحاجة صار مثل اللباس الضيق الذي يحد من الحركة.. لكن الفضائح هي ذاتها لا تقاس بأرقام الأصفار على اليمين، وإنما بأفعال الشياطين في كل اتجاه. وبعد أن هزت الفضيحة أركان المجتمع واستخدمت مثل كل الهفوات والمزالق في تأجيج العواطف، طوي الملف على قاعدة رد ما جُلب سرا بالإعلان الصريح عن إعادته جهارا إلى الخزينة.
توقفت مطاحن السياسة عند فكرة إرجاع المليار، وسعد مكوار لأن الفأس لم يضرب الرأس. وأخرج بعض ما في الجيب عله يتجنب مخاطر الغيب. وتنفس الناس الصعداء لأن البرلمان أصبح ساحة ممكنة لتدبير أمور صرف المال العام، حين توجه لغير المنفعة العامة. لكن الطائرات التي تحلق في السماء كثيرا ما تركت آثارها على الأرض.
تذكر الناس فضائح مماثلة راج حولها كلام كثير. وحمد قرويون الله وشكروه لأنهم يتنقلون عبر الدواب التي يعرفون الجيد فيها من الزائف. وليس مثل الطائرات أو العربات التي تخفي الأصباغ أعمارها. وكنت استفسرت مسؤولا سابقا عن قصة الطائرات، تجنب الرد صراحة وقال تلميحا: «لولا أن الناس يعشقون الجمال لما تم اختراع الماكياج. ولولا أن الجراحة التجميلية تخفي التجاعيد لما انطلت الحيلة عليهم من أول نظرة».
الفرق فقط أن التجميل على الوجوه، وحتى السيقان والأرداف عملية شخصية لا دخل فيها لغير العرض والطلب، أما تزيين الطائرات والعربات ففيه مضرة للمال والعباد.. وبذلك ينطلق سهم «عفا الله عما سلف».