شوف تشوف

سري للغاية

قصة القطيعة التاريخية بين الجالية اليهودية والجزائر

إعداد : حسن البصري

رغم إعفائه من مهامه الوزارية فقد تواصل نشاط محيي الدين عميمور على الواجهة البرلمانية، أو ما يعرف بالثلث الرئاسي وذلك سنة 1991، حيث كان يصر دائما على المبدأ ذاته «لا حوار عنف ولا عنف حوار» وهو المبدأ الذي كان وما يزال أساس سياسة حزب جبهة التحرير الوطني.
يقول في بوحه عبر أوراق «وزيرا زاده الخيال»، «تواصل نشاطي البرلماني بشكل روتيني لا جديد فيه. وعرفت الجزائر قضية «أنريكو ماسياس» التي أسيء تفسيرها في الشرق العربي، ومن هنا كتبت في الأهرام يوم 14 فبراير 2000، في ذات الموضوع:
«كان أنريكو ماسياس (واسمه الحقيقي غاستون غارناسيا) ممن أدخلوا الجمل الموسيقية الأندلسية في الأغاني الفرنسية، مما جعله واحدا من أقرب المغنيين إلى أبناء جيلنا، وينتمي أنريكو إلى يهود قسنطينة العاصمة الثقافية لشرق الجزائر، التي عرفت دائما برائد النهضة الجزائرية عبد الحميد بن باديس مؤسس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين. لقد كان اليهود جزءا من الشعب الجزائري، منهم من ينتمي إلى الشمال الإفريقي، ومنهم من طردوا من إسبانيا بعد سقوط الدولة الإسلامية فيها فجاءوا إلى المنطقة حاملين من بين ما حملوه من أمتعتهم الخاصة شظايا من الموسيقى الأندلسية، أصبحت تتوارث بعد ذلك أبا عن جد بالنقل الشفوي، وكان ممن برزوا في هذا المجال من يهود قسنطينة مغن يسمى ريمون هو الأب الروحي لأنريكو».
يقدم محيي الدين مسحا تاريخيا ليهود شمال إفريقيا ويعتبر يهود الجزائر ناقصي وطنية: «وعلى عكس من بقي في مصر من اليهود أو من ظلوا يعيشون في تونس أو المغرب ولم يستبدلوا جنسيتهم بأخرى انحاز يهود الجزائر إلى الحكم الاستعماري الفرنسي، حيث أصبحوا جميعا حملة للجنسية الفرنسية».
ورغم ذلك ظل اليهود في معظمهم، خاصة كبار السن، على نفس العادات القديمة الموجودة في الجزائر، وتمتعوا بحماية الشعب الجزائري خلال الحرب العالمية الثانية في عهد حكومة فيشي الفرنسية المتعاونة مع النازية، ومواقفها من اليهود معروفة ومدانة، بغض النظر عن المزايدات والمبالغة التي ميزت الخطاب اليهودي بعد انتهاء الحرب العالمية. ومع قيام الثورة الجزائرية سنة 1954 حدث فرز تدريجي بين المسلمين واليهود، لم يأخذ للأمانة، طابع العداء السافر، ربما من منطق الخبز والملح.
ومع بداية الستينات وضعت جبهة التحرير الوطني النقط على الحروف في ما يتعلق بالتعاون المستقبلي مع الجالية اليهودية المقيمة في الجزائر، ورغم أن تاريخ تلك المرحلة لم يكتب بكل التفاصيل فإن قدامى المجاهدين يروون قصة الدكتور الخازندار الذي كلف من قبل الوطنيين بطرح عرض واضح وصريح على ريمون، يطلب من الجالية اليهودية ألا تنحاز إلى الجانب الفرنسي، محذرا قيادات يهودية فيها من مغبة دعم الموقف الاستعماري المتعنت للمستوطنين الفرنسيين، مذكرا إياهم بكرم أبناء المغرب العربي الذين أحسنوا استقبال من طردهم الأسبان من الأندلس فطلب ريمون فرصة للتفكير وإجراء الاتصالات المطلوبة.
وبعد أيام يجري اغتيال الدكتور الخازندار، ولا تمر فترة طويلة إلا ويسقط ريمون صريع رصاصات أطلقت عليه في أحد شوارع قسنطينة من مسدس مزود بكاتم للصوت، كما قالت ابنته في حديثها للقناة الفرنسية الثانية، وجرى تحريض هائل ضد الجزائريين في تلك الفترة القاتمة في تاريخ اليهود بالجزائر، وهناك ممن عايشوا المرحلة من يؤكد أن أنريكو نفسه انخرط في المليشيات التي كانت تطارد الوطنيين.
ورغم أن الاغتيالات اعتبرت كانتقام من الجزائريين لمقتل الخازندار، فإن هواة نظرية «المؤامرة» يؤكدون أن اغتيال ريمون لم يكن بأمر من جبهة التحرير الجزائرية، لأن استعمال كاتم الصوت لم يكن مألوفا لدى الفدائيين الجزائريين.
هاجر أنريكو ماسياس في إطار الهجرة الجماعية للفرنسيين بعد استقلال الجزائر، وانتهت حكايته، بل إن الجزائر لم تضع أي عقبات في وجه ماسياس منذ استرجاع الاستقلال، رغم مواقفه العدائية خلال العهد الاستعماري، خصوصا قبل وبعد اغتيال الدكتور الخازندار في قسنطينة.
ومع كل المآخذ عليه عومل ماسياس بمنطق عفا الله عما سلف، ولم تتخذ ضده، أو ضد أغانيه، أي مواقف عدائية، وذلك حتى يونيو 1967، عند حدوث العدوان الشهير على مصر الشقيقة. يومها قاد ماسياس مظاهرة تجمعت أمام السفارة الإسرائيلية في باريس، هتفت بحياة الكيان الصهيوني وعبرت بحماس طبعه التشفي عن سعادته بانتصارها الساحق على الوطن العربي، وليس على مصر وحدها، وعندها أصدرت القيادة في عهد الرئيس هواري بومدين قرارا بحظر بث أغانيه، وبمنعه من دخول الجزائر، وتعاطف الجزائريون جميعا مع هذا القرار الوطني، ومنهم مواطنون بسطاء حطموا أسطواناته، ولم يتغير موقف الجزائر منذ ذلك التاريخ، حتى عندما استقبل النظام المصري المغني اليهودي بترحيب يثير الغثيان.
وعندما منح الرئيس بوتفليقة ماسياس الترحيب الديبلوماسي بناء على توسله ودموعه لم يحترم ماسياس موقف الرئيس الجزائري، بل راح على الفور يعد لزيارة أرادها أن تجعل منه ممثلا للجالية اليهودية ومتحدثا باسمها وساعيا إلى إعطاء عذرية جديدة ليهود الجزائر الذين ارتبطوا بقانون كريميو (1870) الذي منحهم الجنسية الفرنسية، ووصل به الأمر إلى المطالبة علنا وفي تصريحات متلفزة بفتح التحقيق في مقتل صهره المغني ريمون، الذي أعدمته جبهة التحرير الوطني كرد على اغتيال الخازندار.
عندها تحرك الوطنيون لرفض الزيارة، خصوصا عندما كشفت القلة التي صوتت ضد استقلال الجزائر في 1962 وأبناؤها عن حماستهم لاستقبال المغني، وكأنهم أرادوا التعبير له عن استنكارهم لموقف نظام الرئيس بومدين منه.
وصبت تصريحات ماسياس وأصهاره للقنوات الفرنسية الزيت على غضب المواطنين في الجزائر، وهو ما واجهه غارناسيا بنوع من التعالي، أكده لي الممثل الفرنسي ذو الأصل الجزائري المعروف باسم: سماعين، وكان مما قاله المغني الأحمق أنه سيزور الجزائر التي تفتح ذراعيها لاستقباله، ولن يثنيه عن ذلك موقف ثلاثة من الناس لا يمثلون شيئا (وكان يقصد عبد العزيز بلخادم وخالد بن إسماعيل والعبد الضعيف).
وربما لقي تشجيعا على موقفه من بعض من كانوا يتصورون أنهم بذلك يخدمون رئيس الجمهورية، وعبر عن موقفهم مسؤول أمني كبير، لا أسميه لأنه في رحاب الله، قال لي: أنتم تقفون ضد سي عبد القادر (الاسم الحركي لبوتفليقة خلال الثورة)، وأجبته على الفور: بالعكس، نحن نخدم التوجه الوطني لرئيس الجمهورية، وأنتم من يستنفر عداوة المواطنين ضده، بعد أن أساء المغني التافه التعامل مع الكرم الجزائري وفشلت كل ترتيبات زيارة لم تتم حتى اليوم، وأرجو ألا تتم أبدا».

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى