شوف تشوف

الرأيالرئيسية

قصة القرد والغيلم

بقلم: خالص جلبي

 

مع كتابة هذه الأسطر، اندلعت الحرب بين الجيش السوداني والجيش السوداني. الأول يزعم أنه الجيش، والثاني يزعم أنه قلب الجيش؛ فهو قوات الدعم السريع، لنقل بكلمة أوضح قوات الرئيس الشخصية لحماية الطاغية. وهي قصة مكررة بئيسة لأمم تافهة لا تسطيع تقرير مصيرها.

وفي كتاب «مذكرة ذهاب وإياب إلى الجحيم» لمحمد الرايس ينقل ذكرياته عن تاريخ دموي من الانقلاب في المغرب، ثم سجن أشبه بالمقابر، وبعد ذلك خروج من الأجداث مثل الأموات الذين انبعثوا إلى الحياة. ويبدو أن ذاكرة الإنسان عندنا قصيرة، ومما يذكر الرجل موقفا خسر فيه شرفه، عندما أُمر بالقتل فقتل آخر لا ذنب له، إلا الصدفة السيئة التي رسمت مصيره بريشة دموية.

ومن قبل سمعنا عن محاولة انقلاب في موريتانيا وهو أمر مرَّ علينا فترة طويلة لم نسمع بها أخبار الانقلابات، وكان في ظننا أن العالم العربي ودع فترة الانقلابات، ولكن يبدو أن هذه الجرثومة الخبيثة ما زالت تسري منا مسرى الدم. ومشكلة الانقلاب تختصر الفهم في كيفية تغيير الأوضاع السياسية بالقوة المسلحة غدرا في الظلام على ظهر الدبابات وبلوحة سريالية من ضحايا ودماء، وهي مؤشر لفقد الحوار في المجتمع إلا لغة السيف.

وينقل خاتمي في كتابه «الفكر في شرك الاستبداد» قصة انقلاب أبو ليث الصفّار، فهذا الرجل قام بانتفاضة مسلحة فحذّره رجل من بيعة الخليفة، فامتشق السيف، ثم لوح به فوق رؤوس الناس صائحا، إن هذا السيف هو الذي أجلس الخليفة على كرسي الخلافة في بغداد، فعهدي وعهد الخليفة واحد.

ونحن في الواقع لا نتصور مسلسل الانقلابات الدموي الذي أنهى عهد الخلافة الراشدة في الإسلام، ولم ينته بعد من حياتنا، فما زلنا نؤمن أن السيف أصدق أنباء من الكتب في حده الحد بين الجد واللعب، كما قال الشاعر. ولشدة غموض هذا الموضوع، فقد فاتنا ما فعله الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في كيفية تغيير المجتمع والدولة سلميا، وليس بالعمل العسكري المسلح بتنظيمات سرية تحت الأرض. وهذه السنة غابت عنا واختلط علينا مفهوم الجهاد وضاع عنا مفهوم المحنة والصبر عليها، فأبدل الله أمننا خوفا وأوضاعنا اضطرابا وضلالا.

قصة الانقلاب في موريتانيا تذكرني بقصة القرد والغيلم، فقد روى المقفع في كتابه «كليلة ودمنة» أن قردا كان يحكم قومه، فتقدمت به السن، فقام قرد شاب بانقلاب عسكري عليه، فهرب كما هرب الرئيس الموريتاني إلى السفارة الفرنسية من بطش العسكر. وصاحبنا القرد المسن هرب حتى آوته شجرة التين، وكان الوقت صيفا طابت فيه الثمار كما تحدث الانقلابات عادة مع الصيف، فاعتلى القرد المتعب ظهر الشجرة، ثم شرع يتذكر أيامه الحلوة ويأكل تينة فيمضغها، ثم يلقي بأخرى في ماء النهر الذي يتدفق تحت الشجرة، فيسمع لها رنين. ولكن صديقنا القرد المجهد الذي التقط أنفاسه، رأى غيلما، وهو ذكر السلحفاة، يتقدم إليه فيسلم عليه ويشكره لما ألقى من تين إلى النهر. فسر القرد بصديق يروي له متاعبه، وقصة الانقلاب المروع الذي حدث وكاد أن يقتل فيه. ومع الوقت نمت الصداقة بين القرد والغيلم، ولكنها لم تكن بذلك الخبر السار لزوجة الغيلم، فقد ساءها تأخر زوجها في العودة إلى المنزل، فلما سألت عن الخبر قالوا لها لقد صادق قردا شيخا، وهن العظم منه، على ظهر شجرة، فهما يتساران ويروي كل واحد منهما للآخر محن الدهر. فتظاهرت بالمرض الشديد عندما رجع ليلا إلى منزله، فلما سأل قالوا له إنه مرض أعيا الأطباء ولا دواء له، إلا قلب قرد. ففكر الغيلم فلم يجد سوى قلب صاحبه الهارب من الانقلاب العسكري في مملكة القرود، فجاءه في الصباح وقد قرر الغدر به، فقال له: إنني أريد إكرامك كما أكرمتني وأدعوك لزيارتي في منزلي. فقال القرد: وكيف لي بعبور الماء؟ قال: لا عليك فظهري خير مركب. ثم إن القرد اعتلى لجة الماء على ظهر درع الغيلم، وهو مزهو بهذه الرحلة الميمونة ولم يخطر في باله أنها انقلاب جديد. وكان الغيلم أثناء هذا قد راجع نفسه، فأحس بالخجل كيف يقابل الحسنة بالسيئة والكرم بالقتل، فكان يتوقف من حين لآخر. فراب القرد الأمر لما تكرر. قال: يا صاحبي ما بالك مترددا في سباحتك؟ قال: أمر يصعب علي قوله لك، فزوجتي مريضة وليس لها من دواء إلا قلب قرد فقلت ليس لي سواك، فلا تحزن يا صاحبي فالموت حق على الجميع. قال القرد: سامحك الله لو قلت لي قبل هذا لنفعتك. قال الغيلم: وكيف؟ قال نحن معاشر القردة نترك قلوبنا معلقة في بيوتنا حينما نخرج للسفر، فإن عدنا غرسناها من جديد في صدورنا! تعجب الغيلم وحمد الله على هذه العادة عند القرود، أصحاب الانقلابات. فرجع به إلى الشاطئ وقبل أن يصل قفز قفزة هائلة، فصعد الشجرة وغاب، فلما تأخر صاح به الغيلم: أين أنت يا صاحبي؟ قال القرد: أتريد أن أكون مثل الحمار بدون أذنين وقلب. قال: وما قصته؟ فشرع القرد في رواية جديدة عن قصص جماعات الغدر والانقلابات.

 

نافذة:  

مشكلة الانقلاب تختصر الفهم في كيفية تغيير الأوضاع السياسية بالقوة المسلحة غدرا في الظلام على ظهر الدبابات وبلوحة سريالية من ضحايا ودماء وهي مؤشر لفقد الحوار  

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى