شوف تشوف

الرأيالرئيسية

قصة الشقي بانشو فيا

إن أمريكا بارعة في صنع الأبطال، و«ابن لادن» و«نصر الله» ليسا أولهم، ففي عام 1910م بدأ «بانشو فيا» حياته كرئيس عصابة في المكسيك يقطع الطرق، ويعطي المال للفقراء، ويسحر النساء بمغامراته الفروسية. كان مزيجا من روبن هود ودون جوان. وعندما اندلعت الثورة في المكسيك، أعجب الناس به (قارن مع حرب ابن لادن ضد السوفيات)، ثم نسيه الناس وعاد الرجل إلى مسقط رأسه. ولكن الرجل سئم حياة التبطل، فما كان منه إلا أن هاجم الحدود الأمريكية في مارس 1916م، فقتل سبعة عشر أمريكيا (قارن مع 3000 في حادثة شتنبر). فاستشار الرئيس الأمريكي الأسبق «وودرو ويلسون» من حوله، فأصروا عليه أن يلقن بانشو فيا درسا قاسيا، ويبين للعالم أنه لا يستطيع أحد أن يهاجم الولايات المتحدة، ثم يفلت من العقاب. ومع أن الرئيس الأمريكي كان رجلا مسالما، إلا أن الضغط عليه كان كبيرا، وهكذا شنت حملة على المكسيك أخذت اسم (الحملة العقابية)، بدأت بعشرة آلاف جندي بقيادة جنرال مندفع ومشهور هو «جون.ج. بيرشنغ»، عرف بدحره للمقاتلين غير النظاميين في الفليبين. وسارت الحملة مع طبل وزمر الصحافة، تظللها قوة جوية استطلاعية. وظنوا أن أمر القبض على الشقي وتقديمه إلى العدالة مسألة أسابيع قليلة، ولكن ما حدث أن الشعب المكسيكي الساخط على بانشو فيا، بدأ بالتضايق من وجود القوات الأمريكية على أرضه (قارن مع المقاومة العراقية الحالية). بل تحول الرجل بفضل أمريكا من قاطع طريق إلى بطل قومي يُعبد، وهكذا ضل سعي القوات الأمريكية في القبض عليه، وبدأ الناس يعطونها معلومات مضللة. وكان قاطع الطريق بانشو فيا يسبقها دوما بخطوة إلى الأمام، حيثما طاردته. وفي صيف 1916م كانت الحملة قد تضخمت إلى 123000 جندي، ولكن بدون فائدة فقد كان الحر يشويهم عطشا وحرقا، ويعانون من لسع البعوض ووعورة التضاريس. ومع كل التمشيط للبراري والقفار، فإن الشقي كان يفلت منهم دوما، واستمرت لعبة القط والفأر. ومع المزيد من اقتحام القوات الأمريكية للمكسيك، كانت تستثير سخط الناس ومقاومتهم، ومعها تزداد شعبية «بانشو فيا» ويزداد التحاق المتطوعين به. وفي نهاية المطاف لم يبق أمام القوة العظمى إلا أن تنسحب في يناير عام 1917م تجر ذيول الخيبة، وبينما كانت القوات الأمريكية تنسحب، كان الشقي «بانشو فيا» يطارد مؤخرة الجيش الأمريكي زيادة في التنكيل. وفي النهاية مات بانشو فيا، بعد الحملة بست سنوات، بطلا قوميا في المكسيك تهتف له الجماهير الكادحة، وكل ذلك بفضل أمريكا.

هذه القصة الممتعة التي جاءت في كتاب «شطرنج القوة» لروبرت غرين، تفيدنا في قصة حرب أمريكا على الإرهاب. وأنها صنعت «ابن لادن» و«القاعدة»، ونصر الله، البيدق الإيراني، كما في قصة «فرانكنشتاين»، و«يداك أوكتا وفوك نفخ». فالأعرابي الذي أراد عبور النهر نفخ القربة بفمه، ولكنه لم ينتبه إلى الثقب الذي فيها، فلما جاءت لحظة العبور خانته، وإذ لم يكن يعرف السباحة غرق فذهبت مثلا عند العرب.

وأمريكا حصل لها الشيء نفسه مع محاربة الإرهاب. والجراح السيئ إذا دخل على السرطان بغير تهيئة، ينقل الانتشارات إلى بقية الجسم من حيث يريد شفاء مريضه.

و«توينبي» ذكر عن الفاتحين مثل «أورانجزيب» أن عدوانهم ارتد عليهم فحركوا أعشاش الدبابير، وجاء انهيار الإمبراطورية البريطانية والاتحاد السوفياتي من الهجوم على أفغانستان، ولحقتهما إمبراطورية بايدن.

وكتب الصحفي الإسرائيلي «أوري أفنيري»، قبل حرب العراق، أنها قادمة لا ريب فيها، وأن الفصل الأسهل هو إزاحة صدام، وأن خروج أمريكا مسألة وقت. ويتعجب الإنسان فعلا عن مغزى قدوم أمريكا لإزالة صدام، وكان بالإمكان التفاهم معه كما هو الحال مع طغاة آخرين. ولكنها صيرورة التاريخ أنه يمشي بخطى تقدمية، وإلا بقي صدام وعائلته مثل عائلة هولاكو قرنا آخر.

وتوقع «أفنيري» نهاية سيئة لإسرائيل، بعد رحيل أمريكا، بتطويقها بدول أصولية في المنطقة. وحينما يفجر جماعة القاعدة محطة «أوتشا» في مدريد، في 11 مارس 2004م، ويقتلون 191 فردا ويجرحون 2000، قبل الانتخابات العامة بثلاثة أيام، فلم يمض الحدث عبثا، بل ترك بصماته فخسف بحكومة «أثنار»، وجاءت حكومة جديدة سحبت القوات الإسبانية من العراق، وبذلك كوفئ الإرهابيون وصنعوا التاريخ وبدلوا سياسة أوروبا. فالأمر جد وليس بالهزل.

إن قصة أمريكا في معالجة الأمور تذكر بقصة القرد والحمص، فقد جاء في كتاب «الخرافات» للكاتب الروسي «ليو تولستوي»، أن قردا كان يحمل حفنتين من الحمص في يديه، فسقطت منه حبة فأراد التقاطها، فسقطت منه عشرون حبة، فحاول أن يلتقط العشرين ففتح يديه الاثنتين وعندئذ سقط كل الحمص منه، ففقد هدوءه واحتد مزاجه وبعثر حبات الحمص في جميع الاتجاهات، وولى غاضبا.

خالص جلبي  

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى